عملية إطلاق النار الدموية التي استهدفت ستة رجال إيطاليين لدى خروجهم من أحد مطاعم مدينة ''ديزبورج'' الألمانية في أغسطس الماضي، أكدت للعالم ما كانت السلطات الإيطالية تعرفه، بأن المافيا الإيطالية ''ندرانجيتا'' كبرت ونضجت وتحولت إلى قوة دولية. في الماضي كانت مافيا ''كوزا نوسترا'' الصقيلية الإيطالية أشهر المنظمات الإجرامية وأكثرها رهبة، غير أن القبض على ''سالفادور لو بيكولو'' أظهر مدى تراجعها وتقهقرها؛ حيث تم القبض على زعيميها في أقل من عامين، غير أنه في الوقت الذي أُنهكت فيه ''كوزا نوسترا'' وضعفت بفعل الجهود التي تبذلها قوات محاربة المافيا، ازدهرت ''ندرانجيتا'' في صمت وازدادت قوة، ولكن اغتيال سياسي في معقل ''ندرانجيتا'' في 2005 دفع الحكومة إلى التعهد بمواجهة المنظمة بحزم وصرامة، بالإضافة إلى ظهور منظمة شابة ضد المافيا -''أماتزاتيتشي توتي''- تعهدت هي الأخرى بالحرص على أن تفي الحكومة بما قطعته على نفسها. ويقول ''جيوسيبي لوميا'' -نائب رئيس اللجنة البرلمانية لمحاربة المافيا في إيطاليا-: ''يتعين على الدولة أن تحقق بشأن جميع المنظمات الإجرامية''، مضيفا ''باستعمال تعبير مجازي رياضي، أقول إن الدولة اليوم تتدرب بأفضل لاعبيها، ولكنها لم تشكل بعد فريقا قادرا على الفوز بالبطولة''. لقد كانت أنشطة ''ندرانجيتا''، التي يوجد مقرها في إقليم ''كالابريا'' -الواقع في أقصى الجنوب الإيطالي- مقتصرة عموما على ابتزاز ونهب التجار الريفيين والاختطاف من أجل الفدية. أما اليوم، فقد نسجت روابط متينة مع ''كارتل'' المخدرات الكولومبي ''ميدلين''، وغدت أكبر لاعب في سوق الكوكايين في أوروبا، كما يقول ''ألبيرتو سيستيرنا'' القاضي في ''المديرية الوطنية لمحاربة المافيا'' في روما العاصمة الإيطالية. ويقدر المسؤولون والخبراء الإيطاليون أن 80 في المائة من واردات أوروبا تأتي عبر ميناء ''جويا تورو'' بإقليم ''كالابريا''، والذي تقول الشرطة الإيطالية إنه خاضع لسيطرة المنظمة. كما يقدر المدعون العامون أن أنشطة ''ندرانجيتا'' تدر على المنظمة 36 مليار يورو (52 مليار دولار) من المداخيل في العام. وحسب تقرير معهد ''يوريسبيس'' الإيطالي للبحوث الاجتماعية صدر عام ،2005 فإن تجارة المخدرات جلبت للمنظمة نحو 22,3 مليار يورو، ناهيك عن المداخيل التي تحصل عليها عن طريق الابتزاز وتجارة الأسلحة وغيرهما. ويقول ''نيكولا جراتيري''، القاضي الرئيسي الذي يحارب ''ندرانجيتا'' منذ نحو 20 عاما، إن المنظمة تستثمر عائداتها في شمال إيطاليا وبقية أوروبا. في حين تحدثت الصحافة الإيطالية والألمانية، ومن بينها مجلتا ''بانوراما'' و''ستيرن''، عن مخططات لغسيل الأموال من قبل ''ندرانجيتا'' عبر أوروبا. وحسب تقرير لمكتب رئيس الوزراء الإيطالي ''رومانو برودي'' في أغسطس، فإن المنظمة تتوفر على ''حضور لا بأس به'' في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبلقان وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية. وبالنظر إلى حقيقة أن أعضاء ''ندرانجيتا'' يجنَّدون على أساس الروابط العائلية، فإن المنظمة منيعة تقريبا أمام اختراق الشرطة لها؛ وفي هذا الإطار، يقول ''جراتيري إن ''كل ''لوكالي'' أو خلية تتألف من أشخاص ينتمون إلى العائلة، وهو ما يفسر غياب متعاونين مع العدالة''، مضيفا أن 42 عضوا فقط انقلبوا حتى الآن ضد ''ندرانجيتا''، مقارنة مع ما بين 700 و1000 من ''كوزا نوسترا'' و2000 من ''كامورا''. ومع ذلك، فإن الخلافات تحدث بين المجموعات داخل ''ندرانجيتا''، ما يؤدي إلى نتائج دموية أحيانا. فعملية القتل في ''ديزبورج'' الصيف الماضي مثلا -كما يقول ''جراتيري'' الذي يحقق في أسباب الهجوم- تندرج في إطار صراع داخلي؛ ذلك أن أحد الرجال الذين تعرضوا لإطلاق النار واسمه ''ماركو مارمو''، كان مطلوبا لدى السلطات لتورطه في مقتل زوجة زعيم ''ندرانجيتا'' في بلدة ''سان لوكا'' في إقليم ''كالابريا'' عام 2006. وقد رفض ''جراتيري'' تقديم مزيد من التفاصيل حول التحقيق الذي مايزال جاريا، غير أن الصحافة الإيطالية ذهبت إلى أن ''مارمو'' كان السبب وراء تنفيذ إحدى المجموعات داخل ''ندرانجيتا'' لهجوم ديزبورج. أما ''لوميا'' -أحد أعضاء اللجنة البرلمانية لمحاربة المافيا-، فيرى أن الصراع ''أصبح تنافسا على السيطرة المالية والترابية على ''سان لوكا'' ... التي أصبحت سيطرة على صعيد دولي''. ومن أجل إسقاط ''ندرانجيتا'' وتفكيكها، يرى ''جراتيري''. أن الحاجة ماسة إلى سن تشريع جديد، إذ يقول: ''ليست لدينا قوانين تتناسب وقوة ندرانجيتا''، مضيفا أن المدانين ذوي السلوك الحسن يستطيعون مغادرة السجن بعد خمس سنوات. يقول جراتيري: ''أريد ألا يفرَج عنهم قبل 30 عاما''.