يصطبغ لون الجليد بالحمرة على طرق جبلية تقع على مشارف منطقة تونجلي عند نقطة الالتقاء بأراض خصبة.. اما اجتياز هذه المنطقة الحمراء التي تزخر بخام النحاس فهو مسألة حياة او موت حيث تشيع اعمال العنف منذ 23 عاما. واستحالت معظم مناطق الاناضول (جنوب شرق تركيا) التي يغلب عليها الطابع الريفي الى حقول ألغام ارضية بفعل الصراعات الضارية التي تشهدها المناطق منذ التسعينات واعمال العنف المتفرقة حاليا بين الجيش التركي والثوار الاكراد. وتقول مصادر امنية ان بعض المتفجرات يجيء من العراق المجاور. ولم تف الحكومة بوعود بتطهير المنطقة من الالغام الارضية التي تنتشر في المناطق الريفية لذا فانه بالنسبة الى قاطني المنطقة ممن لم يفروا منها مثلما فعل مئات الالاف غيرهم فان مجرد العادات اليومية البسيطة على غرار ترك الابناء يلهون في الخارج او يذهبون الى المدارس باتت من الامور التي تنطوي على كوارث. ويقف خضير جيليك مثلا صارخا على هذه الاخطار بعد ان مزقت الشظايا جسده فيما يرتسم الالم على محياه وهو يهم بالجلوس ولايزال الاطباء يحاولون استخراج شظايا استقرت في جسمه النحيل منذ ان تعرض لانفجار لغم عام 2002 اسفر ايضا عن مقتل خمسة اشخاص. يحملق جيليك امامه في المجهول لتظهر على موضع عينه اليمنى رقائق بلاستيكية بديلة الهدف منها هو ان تبدو عينه التي فقدها تضاهي لون قزحية عينه اليسرى العسلية اللون. وقال جيليك الذي كان يمتهن جمع الحديد الخردة فيما سبق اعيدوا لي بصري وردوا الى صحتي.. هذا هو كل مرادي في الحياة. وفي حقيقة الامر فان جيليك في عداد المحظوظين نسبيا ففي عام 2002 وضع شبان خارج متجره جوالا من الحديد الخردة كانوا قد جمعوه من منطقة التلال المجاورة ولم يكونوا يعلمون ان لغما يكمن بين المعادن.. وانفجر الجوال ليفقد جيليك عينه. ومثل هذه الحادثة مجرد واحدة ضمن مئات من الكوارث التي ابتلي بها جنوب شرق تركيا منذ عام 1984 وهي مناطق ريفية تقطنها غالبية من الاكراد حيث يشن متمردو حزب العمال الكردستاني حملة مسلحة بغية اقامة وطن عرقي لهم. واسفر عجز تركيا عن ازالة ما يقدر بنحو 400 الف لغم تم زرعها خلال الصراع عن ارتفاع عدد القتلى حتى رغم زمن السلم النسي في الوقت الراهن فيما ادى هذا العجز الى تعطيل الاستثمارات في منطقة تعاني بالفعل من الفقر المدقع. وقال اوزجور قبلان رئيس نقابة المحامين في تونجلي الذي يتابع عدة قضايا مرفوعة على الدولة بشأن الالغام خلال التسعينات عندما تصاعد العنف بين الدولة والجماعات المتشددة زرع الجنود ألغاما في مناطق كانت تعتبر نقاط مرور لثوار حزب العمال الكردستاني. واضاف تراجع العنف الان ان الالغام لاتزال موجودة. وتشير تقديرات الحكومة ومنظمات المجتمع المدني الى ارتفاع عدد حالات الوفاة والاصابة بسبب الالغام الى 533 شخصا منذ وقف لاطلاق النار بين القوات المسلحة التركية والثوار الاكراد عام 2004 . وفي عام 2004 وعدت تركيا بالكف عن استخدام الالغام الارضية في عملياتها العسكرية الداخلية ووافقت على تطهير مناطق جنوب شرق البلاد من الالغام. ويقول حزب العمال الكردستاني ايضا انه قد توقف عن استخدام الالغام الا ان مصدرا امنيا قال ان الجانبين لايزالان يستخدمانها. ويقول بعض خبراء الامن ان عدد الالغام التي يزرعها ثوار حزب العمال الكردستاني يتجاوز عدد الالغام التي يزرعها الجيش التركي فيما يقول مصدر امني ان الثوار يستخدمون المزيد من هذه الالغام مع تناقص اعداد المقاتلين. ويجري تهريب الالغام بسهولة الى المنطقة على ايدي مقاتلين يختبئون في مناطق جبلية بشمال العراق حيث يتسنى لهم الاتصال باسواق السلاح. لكن مع تقلص نطاق الصراع بين القوات التركية والانفصاليين الاكراد الى مجرد تحرشات منعزلة بدأ بعض القرويين في محاولة العودة الى مصادر الرزق السابقة. وقال رئيس البلدية المحلي جودت كوناك خلال الربيع والصيف يخرج الناس بأغنامهم الى المروج والمراعي او يحاولون العودة الى قراهم الا ان الالغام منتشرة في كل مكان. كيف يتأتى للناس معرفة مواقع الالغام. واضاف الاسلوب الوحيد للتعرف على اللغم هو ان تطأه انت بنفسك او الاغنام. ولم تجر اي دراسات مستفيضة على الاثار الاقتصادية للالغام الا ان كوناك يقول انها تسببت في اضرار اقتصادية ضخمة في المنطقة. وقال كوناك الصناعة الوحيدة هنا هي تربية الحيوان لكن كيف يتسنى لك رعي الاغنام اذا لم يكن بمقدورك التنقل اصلا وماذا انت فاعل اذا انفجرت الالغام في الحيوانات.. حرية الحركة عنصر جوهري لاجتذاب الاستثمارات الى المنطقة من اجل النهوض بها. ويقول كوناك ان متوسط الدخل في مجال تربية الحيوان يصل الى 300 ليرة تركية /220 دولارا/ في الشهر. ومن اجل تطهير المناطق من الالغام في جنوب تركيا وجنوب شرقها طرحت وزارة المالية التركية مناقصتين منذ عام 2005 في اطار جهود الالتزام ببنود معاهدة اوتاوا التي تمنح الدول المواقعة على المعاهدة مثل تركيا مهلة مدتها عشر سنوات للتخلص من الالغام على اراضيها. الا انه تم مؤخرا الغاء المناقصتين اللتين كانت تنصان على منح حق الانتفاع لمدة 49 عاما للجهات الفائزة بالمناقصة لانشاء مزارع عضوية مكان المناطق التي يجري تطهيرها من الالغام. وقال مصطفى اركال حاكم منطقة تونجلي ان قوات الامن بصدد تطهير الاراضي من الالغام الا انه امتنع عن اعطاء مزيد من التفاصيل. اما من يقطنون المنطقة فانهم يتوقون الى سماع انباء في هذا الشأن. وقال كوناك نريد ان نسمع من السلطات اي انباء بانه تم تطهير المنطقة من الالغام وانه قد صار من حقنا التنقل بحرية كيفما شئنا. واضاف الكل خائف. لا يمكنك العودة الى قريتك. لا يمكنك ان تنحرف عن جادة الطريق.