من يتأمل دولة الإمارات العربية المتحدة في العيد الأربعين لإعلان الاتحاد، ويقف عند مستوى معيشة شعبها والنهضة العمرانية الهائلة في أرجائها، وبروز مكانتها الخليجية والعربية والدولية، بل وخطوط طيرانها العالمية التي أصبحت أشهر من نار على علم، قد يسأل نفسه أين كان هذا الشعب قبل هذه السنين الأربعين؟ وكيف كان يكافح قبل النفط في سبيل عيشه على كل صعيد؟ ومن أين كان يجمع المال وفيم كان يصرفه؟ ماذا كان يعمل في البر وفيم كان يكدح في البحر؟ كيف كان يتصارع مع هذه البيئة القاسية التي وجد نفسه فيها، وكيف كان ينظم أموره السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها؟ كان أعضاء الإرسالية الأميركية في البحرين كالطبيب "بول هاريسون" أحد من زار أبوظبي في بداية القرن العشرين، عام 1919 بعد أن وافق شيوخ الإمارات على أن يزور مناطق الإمارات للقيام بعمل طبي شامل. وبعد إبحار جميل وسط الخليج استمر يومين، يقول الطبيب: "وصلنا إلى أبوظبي قادمين من البحرين، وكان لقائي بهذه المدينة أشبه بلقاء صديق قديم لم أره منذ زمن بعيد، وفي أبوظبي أقمنا في مجلس الشيخ حمدان بن زايد الحاكم، وفي أبوظبي وجدت العرب كما هم في بقية الإمارات الأخرى، يحمل جميعهم البنادق فوق أكتافهم وذوي لحى سود، وتلازمهم البنادق مثلما نرتدي نحن ربطات العنق، والرجل هنا من دون لحية وبندقية يعتبر وكأنه لا يلبس اللباس الوطني. وفي مجلس الشيخ حمدان كان علينا أكل بعض الحلوى العُمانية المشهورة قبل أن نشرب القهوة". ويواصل الطبيب الأميركي الحديث عن فتح العيادة الطبية التي تقاطر عليها فيما بعد المئات ومن كل مكان "وكان الكثير منهم يطلبون منا إقامة عمليات جراحية". كل زوار منطقة ساحل الإمارات ومن مر بها كتبوا عن مشاق الحياة فيها، وهي كتابات تعكس كما قلنا قسوة الحياة والتحديات المعيشية اليومية لأهل الإمارات. ولا تزال المقابلات الصحفية التي تجري مع الرعيل الإماراتي الأول والجيل القديم تكشف عن جوانب مجهولة في الكتابات والبحوث العربية، وفي المعلومات المتداولة في المنطقة الخليجية نفسها، ومنها الكويت مثلاً، عن حياة البر والبحر، والسفر والزراعة، في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لشعب الإمارات. من أجمل الكتب وأثراها بالمعلومات عن هذه المرحلة مثلاً كتاب "الإمارات في ذاكرة أبنائها" للأستاذ " عبدالله عبدالرحمن رحمة" وهو إعلامي إماراتي من مواليد رأس الخيمة 1957. الكتاب يحوي مجموعة كبيرة من المقابلات مع بعض الشخصيات الإماراتية التي نشطت بخاصة في الحياة الاقتصادية براً وبحراً، وتتضمن المقابلات قصصاً ومعلومات وفيرة شيقة، عن حياة أهل الإمارات.. قبل ظهور الاقتصاد البترولي! كانت التجارة البحرية والغوص بحثاً عن اللؤلؤ أبرز مهن الناس آنذاك. الكثير من مغاصات اللؤلؤ كانت في الخليج، ولكن بعضها كان بعيداً جداً عنه. الإماراتي عبدالرحمن بن أحمد كاجور، أحد من قابلهم جامع الكتاب، يقول: "هناك مجموعة من سفن الغوص لأبناء الإمارات كانت تواصل رحلاتها بعد توقف الغوص في الخليج إلى سيلان في الهند، وذلك في شهور الشتاء. وقد كان والدي واحداً من أولئك الذين اعتادوا الغوص في سيلان، وكان يخبرني بأن بحارها كانت غنية باللؤلؤ، إلا أن الغوص كان يتم حسب حركة العَلَم البريطاني، فإذا ما كان العلم مرفوعاً يتم الغوص، أما إذا أُنزل العلم فإنهم كانوا يسحبون غواصيهم من القيعان، وفيما بعد مُنع الغوص في سيلان تماماً. ويقول المؤرخ الكويتي المعروف سيف مرزوق الشملان في كتابه عن تاريخ الغوص، إن بعض الكويتيين كانوا يذهبون إلى سيلان للغوص بحثاً عن اللؤلؤ جماعات وأفراداً. ومن هؤلاء المرحوم عثمان بن إبراهيم الحزاز المتوفى عام 1968، الذي سافر بالباخرة عام 1904 إلى سيلان مع جماعة من أصحابه "وكانت أجرة السفر في الباخرة 12 روبية وكانوا بدون جوازات، ولما وصلوا سيلان ذهبوا بهم إلى المحجر الصحي وضربوهم إبرة للوقاية من الأمراض، وهذه أول مرة في حياته يضرب إبرة حقنة". وازدهرت قبل الكساد المعروف تجارة اللؤلؤ، واختارت مجموعة من التجار الخليجيين الإقامة في "بومبي" بالهند لتسويقه هناك. وكان ملوك اللؤلؤ في دبي يمولون المئات من السفن في مجال الغوص، ويصدرون الإنتاج إلى الهند. وكان الخروج من دبي يتم بصورة جماعية، وكانت أغلب الرحلات تضم الأسماء البارزة، على متن باخرة نقل كبيرة بالإيجار، "وبرفقة التاجر الواحد منهم عدد كبير من الرجال والخدم والطباخين، كما أن التاجر منهم كان يشحن معه عدة رؤوس من الأغنام والخرفان وكذلك عدة أكياس من الرز والسكر والطحين والتمر والقهوة وغيرها من المأكولات والمشروبات". ويضيف جامع كتاب "الإمارات في ذاكرة أبنائها"، أن الرحلة ما بين دبي وحتى ميناء بومبي كانت تستغرق عشرة أيام متواصلة، كما أن الركاب كانوا ملزمين بتوفير احتياجاتهم الغذائية.. أما بعد البيع فإن إجمالي المردود النقدي لتلك الكميات كان يصل إلى ملايين الروبيات". ويُعرف سوق اللؤلؤ في بومبي باسم "موتي بازار"، وإليه كانت تصل أغلب الكميات المنتجة من مغاصات اللؤلؤ الخليجية "وكان هذا السوق يحتوي أيضاً على محال المجوهرات الأخرى كالذهب. أما التجار أصحاب المحال فيه فقد كانوا "البانيان" الهنود، كما كانت توجد في هذه السوق بنوك للتأمين، وكانت أغلب الكميات المتداولة في السوق تباع في الهند وللزبائن الهنود في شكل عقود للزينة وأقراط للأذن وغيرها، وكانت هناك محال في "موتي بازار" لصناع تلك العقود لم تكن مهامهم تتعدى تخريم حبات اللؤلؤ". وكانت صفوة اللؤلؤ المجوهرات تُصدر أحياناً إلى لندن وباريس، وكان بعض التجار الإماراتيين ومنهم حميد بن كامل وعبيد النابودة ومحمد علي زينل الملقب ب"ملك اللؤلؤ"، يقومون شأنهم شأن التجار الهنود بتصدير تلك النوعيات إلى أسواق باريس ولندن. وينقل المؤلف عن بعض التجار أن هناك نوعيات من حبات اللؤلؤ الصغيرة الناعمة التي يصعب تخريمها تُباع للهنود". ويتحدث التاجر الإماراتي نفسه فيقول إنه قابل هناك الزعيم الروحي الهندي "غاندي"، الذي كان في زيارة للجرحى والمصابين من ضحايا المظاهرات في أحد المستشفيات. ولم تغفل النخبة التجارية آنذاك عن أهمية اللغات في التجارة. يقول التاجر سعيد بن علي النومان عن إقامته في الهند: "في بومبي التحقت أولاً ولمدة أربع سنوات متواصلة بإحدى المدارس الخاصة وتعلمت فيها اللغة الإنجليزية". ولم تكن التجارة البحرية بمختلف أنواع السفن الشراعية أقل أهمية للاقتصاد الإماراتي قبل النفط. يقول التاجر المعروف سالم بن حسن الشرهان في إحدى مقابلات الكتاب: "ما أن يستقر الرجال العائدون من الغوص أسبوعاً واحداً بين أهاليهم وأسرهم وأبنائهم وفي أحضان الديار، حتى يكون الوداع مرة أخرى للمشاركة في الرحلات التجارية المتعددة الاتجاهات الخارجية "فيتقوضون" أي يتقاضون أجورهم، بل جزءاً مقدماً منها يتراوح بين الخمسين إلى مائة روبية تقريباً ويوفرون بها لأسرهم احتياجاتها ويبدأ الرحيل". كانت "البغال" أكبر أنواع السفن الشراعية، يقول المؤلف. وبالتحديد في "أم القيوين". ويقال إن شكل " البغال" وتصميمها مقتبس عن السفن البرتغالية الضخمة التي غزا بها البرتغاليون الخليج". كانت هذه السفن الضخمة وغيرها تتحرك بين مناطق الخليج والجزيرة واليمن وأفريقيا وإيران والهند، تنقل مختلف أنواع البضائع المطلوبة هنا وهناك. ومن أجمل ما لخص به التاجر المعروف "سالم بن سعيد السويدي" هذه النشاطات قوله: "كانت سفن أهالي الخليج كما نعلم كالدكان الجائلة، كلما قدموا إلى بلد باعوا ما لديهم واستبدلوا بها بضائع من نوع آخر". كان تسويق المنتجات الزراعية في المدن الإماراتية الساحلية لا يخلو دائماً من المشاكل والمخاطر. بقي الكثير ليروي عن حياة شعب الإمارات بهذه المناسبة الوطنية، مرورا بأربعة عقود على تأسيس الاتحاد، وربما عدنا إلى ذلك في مقالات أخرى. تهانينا القلبية لدولة الإمارات العربية المتحدة وشعبها العزيز. نقلا عن صحيفة الامارات