هناك ثلاث قضايا معلقة مازالت تهدد الثورة المصرية رغم مرور أكثر من تسعة شهور على قيامها.. لم تستطع الثورة التي شارك فيها الملايين أن تحسم هذه القضايا رغم سقوط رأس النظام وحاشيته.. ولعل ذلك ما جعل الكثيرين يتساءلون هل أخطأ شباب الثورة حينما اعتقدوا أن الثورة أكملت مراحلها برحيل الرئيس السابق عن السلطة.. كان ينبغي أن يبقي الثوار في مواقعهم حتى تتخلص البلاد تماما من بقايا النظام الراحل.. لم يكن احتراق مبنى الحزب الوطني المنحل كافيا.. ولم يكن قرار إلغاء الحزب أو إلغاء مجلسي الشعب والشورى أمرا كافيا.. مازالت هناك جذور كثيرة متشعبة للنظام السابق في مؤسسات الدولة تهدد الثورة بل أن البعض يعتقد الآن ان الثورة قد انتهت بالفعل وأن النظام السابق يدير شئون الدولة المصرية بكل مؤسساتها من خلال أصابعه الخفية التي تعبث في كل شيء.. لا أعتقد أن الثورة قد انتهت بل أنني على يقين أن الثورة الحقيقية سوف تستكمل مسيرتها وأن هناك تصفية حسابات سوف يجيء وقتها مهما كان الثمن.. أن المصريين قد اعتادوا سنوات طويلة على ألا يدفعوا ثمن شيء حدث هذا في كل حروب ومعارك العصر الحديث.. كانت كل المعارك تدور هناك بعيدا.. في حرب فلسطين كانت المعارك تجرى على أرض فلسطين.. وفي حرب 56 كانت القاهرة بعيدة تماما عن الخسائر في حين تهدمت بورسعيد بالكامل.. وفي نكسة 67 حدث كل شيء في سيناء ومدن القناة.. وفي حرب 73 شهدت القاهرة جني الثمار في احتفالات مجلس الشعب والأغاني الوطنية ولم يشعر سكان القاهرة وعواصم الأقاليم بما كان يجري في السويس أو على شاطيء القناة.. كان كل شيء يجري بعيدا عن نبض العاصمة التي احتكرت كل شيء ولم تدفع ثمنا.. عندما قامت ثورة يناير خرج الشعب المصري كله لأول مرة منذ زمان بعيد إلى الشوارع رافعا شعار الرحيل.. رحيل النظام برأسه ورموزه وحاشيته ورحل رأس النظام وبعض حاشيته وأن بقى النظام في مؤسسات الدولة الأساسية.. ولعل هذا ما جعل البعض يقول أن ما حدث في يناير كان مجرد انتفاضة شباب غاضب.. وفي المقابل فإن هذا الطرح جعل البعض يطالب بأن يعود الشعب إلى ثورته ويستكمل مسيرتها.. إذا كان هناك خلاف حول ما حدث في يناير وهل هو ثورة أم انتفاضة أم نصف ثورة فإن الخلاف الأكبر مازال حول النظام السابق نفسه بما فيه رأس النظام.. هناك مؤشرات كثيرة تقول أن بقايا النظام مازالت حتى الآن تحتل جبهات كثيرة في إدارة شئون مصر.. وهناك من الدلائل ما يؤكد ذلك.. نحن أمام حالة من غياب الحسم التي جعلت البعض يشكك في أن ما حدث كان ثورة ولا شك أن هؤلاء على حق وهم يقدمون الأدلة.. أن ما يحدث في محاكمات الرئيس السابق من عمليات التأجيل والمناورات القضائية والتحايل من المحامين يؤكد أن هناك شيئا ما يحكم هذه المحاكمات خاصة أن عريضة الاتهامات شملت جرائم شكلية لا تمثل جوهر الحقيقة.. نحن أمام اتهامات هزيلة سواء كانت الحصول على فيلا أو تخفيض سعر الغاز لإسرائيل أو حتى الأمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين.. هذه الاتهامات لا تمثل شيئا بجانب اتهام واحد هو إفساد الحياة السياسية أو نهب المال العام كان ينبغي أن تركز عريضة الاتهامات على فساد نظام الحكم وليس على جرائم عادية في الحصول على فيلا.. وإذا توقفنا أمام اتهام مثل إطلاق الرصاص على المتظاهرين فإن هناك سلسلة من المتهمين تبدأ بالجنود الذين أطلقوا الرصاص وتنتهي عند صاحب القرار وفي القتل فإن شيوع التهمة يمثل خللا رهيبا في عريضة الاتهام.. منذ البداية كان واضحا أن هناك أصابع خفية عبثت في أوراق القضية ووضعتها في إطار محدود من الاتهامات التي لا تتناسب أبدا مع جرائم النظام السابق وعندما بدأت الحكومة تتحدث عن قضايا الفساد السياسي وضرورة فتح صفحة الحساب وقانون العزل والغدر والخيانة تأجلت القرارات والقوانين ودخلنا في مسلسل أخر من التحايل.. هذا الموقف في المحاكمات انعكس على أحداث الثورة ابتداء بدم الشهداء وانتهاء بطابور خامس يحاول التشكيك فيها أو إجهاضها.. كانت هناك مواقف مريبة في قضية استرداد أموال الشعب المصري التي نهبها رموز النظام السابق.. وهذه المواقف تأكدت في أكثر من صورة لعل أخطرها وأهمها التراخي والإهمال في مخاطبة الدول الأجنبية بشأن هذه الأموال.. كان هناك موقف مريب في سرعة الإجراءات وعدم الجدية في التعامل مع هذه القضية وربما كان ذلك هو السبب في أن الدول الأجنبية لم تأخذ القضية حتى الآن مأخذ الجد.. والدليل علي ذلك أن هذه الدول كشفت بسرعة عن أموال بن علي والقذافي واستطاعت ليبيا أن تسترد 30 مليار دولار والقذافي مازال على قيد الحياة.. وربما كان السبب في ذلك أن الثوار في ليبيا وتونس تعاملوا مع قضايا الأموال المنهوبة بجدية وحسم بينما كنا نتعامل معها بقدر كبير من التهاون والتراخي والتواطؤ أحيانا.. أن قضية الأموال المهربة ونهب المال العام وثورة هذا الشعب كانت تستحق اهتماما خاصا في ترتيب أولويات الثورة ولكن الواضح أن هناك أطرافا ساعدت على ضياع هذه الأموال سواء في حساباتها السرية أو التحويلات التي تمت ولا أحد يعرف عنها شيئا.. القضية الثالثة هي التوتر الذي ساد العلاقة بين المجلس العسكري والحكومة مع الشارع المصري.. كانت الثقة هي الأساس الذي قامت عليه العلاقة مع المجلس العسكري وحمايته للثورة وإعلانه الواضح الصريح بالانضمام إلى الشعب.. ولكن يبدو أن العلاقة مع الرئيس السابق قد ألقت بظلالها كثيرا على قرارات المجلس ومواقفه منذ قيام الثورة وحتى الآن وقد ساعد على ذلك الأداء المتراخي للحكومة والمواقف المشبوهة للنخبة وفشل الأحزاب السياسية في أول امتحانات الديمقراطية لقد تغيرت مواقف وسياسات المجلس العسكري أمام الشعب المصري فلم يكن حاسما أو جادا في التعامل مع جرائم النظام السابق أو إدانة رموزه كما ينبغي.. وبجانب هذا فقد شجع الانقسامات بين القوى السياسية أمام أطماعها الهزيلة في جني الثمار وتحقيق الغنائم.. وهنا كانت معارك الإسلاميين والعلمانيين والأحزاب السياسية.. ولاشك أن أداء الحكومة بكل ما فيه من الضعف والتراخي كان من أسباب ارتباك الشارع المصري خاصة فيما يتعلق بقضايا الأمن.. وقد زاد من حدة هذا الارتباك مواقف النخبة بما فيها من السعي للمكاسب السريعة ومواجهة بعضها البعض ومحاولة الحصول على أي شيء في وليمة فاسدة.. كانت مواقف النخبة شيئا مخزيا وغريبا في لحظة تاريخية كانت تحتاج إلى دور هذه النخبة لتوحيد الصفوف والخروج بالبلد من هذا النفق المظلم.. في تقديري أن المجلس العسكري مازال حائرا بين وعود قطعها على نفسه أمام الشعب في تسليم السلطة للمدنيين وولاء قديم لرأس الدولة جعل المجلس مقيدا أمام إجراءات افتقدت الجدية والحسم معا.. أن الأزمة الحقيقية التي يواجهها المجلس أنه وقف مع الشعب في ثورته ضد التوريث ولكن يبدو أن الخلاف بقى كبيرا فيما يتعلق برأس الدولة.. وهنا يمكن أن يقال أن المجلس قد تأثر كثيرا بمواقف بعض الحكومات العربية أو الغربية فيما يتعلق بأموال ومحاكمات وسجن الرئيس السابق وقد وقف ذلك كله وحال دون تطور الثورة وتحقيق أهدافها.. من هنا فإن المشهد الآن يمكن تلخيصه في عدد من المواقف التي أدت إلى ارتباك الشارع المصري.. هناك محاكمات بطيئة متراخية في كل شيء ابتداء بقائمة الاتهامات الهزيلة لرأس النظام ورموزه وانتهاء بالأموال المنهوبة التي لم تتعامل معها الدولة بالجدية الكافية خاصة أن هذه الأموال إذا عادت تستطيع أن تعيد للاقتصاد المصري الكثير من جوانب الاستقرار والأمن.. انقسامات حادة بين القوى السياسية ونحن على أبواب الانتخابات بحيث تحولت إلى صراعات نحو أهداف غامضة افتقدت الإحساس بالمسئولية والخوف على مستقبل الوطن.. تخاذل مريب من النخبة التي تحولت إلى أبواق لمطالب فئوية ليس هذا وقتها بل أنها فتحت كل الأبواب لصراعات غريبة بين أبناء المجتمع الواحد ولعل ذلك ما أعطى الفرصة لطابور خامس أن يشكك في الثورة وان يسعى لإجهاضها.. وعلى جانب آخر تقف الأحزاب السياسية بكل مظاهر الضعف فيها والترهل أمام اختبارات صعبة مما يهدد التجربة كلها.. وسط هذا الدخان الكثيف تقف القوى الإسلامية وهي تستعد لاحتواء المشهد كله أمام ارتباك المجلس العسكري والحكومة وانتهازية النخبة وفراغ الشارع حيث تبدو الفرصة سانحة لتحقيق مكاسب سريعة وسط هذه الأطلال وان كان هناك خطر أشد بدت ملامحه أخيرا وهو الصراع القادم بين التيارات الإسلامية ممثلة في الأخوان والصوفية والسلفيين وهذه كارثة أخرى.. أن الشيء المؤلم أن الجميع خانوا الثورة.. ولم يصدق أحد معها غير شهدائها الإبرار وملايين الفقراء والبسطاء الذين حلموا معها وربما خرج هؤلاء مرة أخرى لإنقاذها من أيدي الذين سرقوها.. ويبقى الشعر يقولون: سافر.. وجرب وحاول ففوق الرءوس.. تدور المعاول وفي الأفق غيم.. صراخ.. عويل وفي الأرض بركان سخط طويل وفوق الزهور يموت الجمال.. وتحت السفوح.. تئن الجبال ويخبو مع القهر عزم الرجال وما زلت تحمل سيفا عتيقا.. تصارع بالحلم.. جيش الضلال يقولون: سافر.. فمهما عشقت نهاية عشقك حزن ثقيل ستغدو عليها زمانا مشاعا فحلمك بالصبح وهم جميل فكل السواقي التي أطربتك تلاشي غناها وكل الأماني التي أرقتك.. نسيت ضياها ووجه الحياة القديم البريء تكسر منك.. مضي.. لن يجيء يقولون: سافر.. فمهما تمادي بك العمر فيها وحلقت بالناس بين الأمل ستصبح يوما نشيدا قديما ويطويك بالصمت كهف الأجل زمانك ولي وأصبحت ضيفا ولن ينجب الزيف.. إلا الدجل.. يقولون سافر.. ولا يعلمون بأني أموت...وهم يضحكون فمازلت أسمع عنك الحكايا وما أسوأ الموت بين الظنون ويخفيك عني ليل طويل أخبئ وجهك بين العيون وتعطين قلبك للعابثين ويشقي بصدك من يخلصون ويقصيك عني زمان لقيط ويهنأ بالوصل.. من يخدعون وأنثر عمري ذرات ضوء وأسكب دمي.. وهم يسكرون وأحمل عينيك في كل أرض وأغرس حلمي.. وهم يسرقون تساوت لديك دماء الشهيد وعطر الغواني وكأس المجون ثلاثون عاما وسبع عجاف يبيعون فيك.. ولا يخجلون فلا تتركي الفجر للسارقين فعار علي النيل ما يفعلون لأنك مهما تناءيت عني وهان علي القلب ما لا يهون وأصبحت فيك المغني القديم أطوف بلحني.. ولا يسمعون أموت عليك شهيدا بعشقي وإن كان عشقي بعض الجنون فكل البلاد التي أسكرتني أراها بقلبي.. تراتيل نيل وكل الجمال الذي زار عيني وأرق عمري.. ظلال النخيل وكل الأماني التي راودتني وأدمت مع اليأس قلبي العليل رأيتك فيها شبابا حزينا تسابيح شوق.. لعمر جميل يقولون سافر.. أموت عليك.. وقبل الرحيل سأكتب سطرا وحيدا بدمي أحبك أنت.. زمانا من الحلم.. والمستحيل قصيدة انشودة المغنى القديم 1989 نقلا عن جريدة الأهرام