على الرغم من مرور أسبوع بأكمله، فإن ما حدث ليلة الجمعة الماضية يستحق التوقف عنده كثيرا، فهي ليلة انتصرت فيها المصالح العليا للوطن في اللحظة الأخيرة على كل ما عداها من صراعات فئوية، وخلافات سياسية، ولأن هذه المصالح هي التي يجب أن تنتصر دائما، لاسيما في ظروف التحول من الاستثناء الذي هو الفترة الانتقالية الحالية، إلى تأسيس النظام السياسي الجديد، بدءا بانتخابات البرلمان بمجلسيه الشعب والشورى. بدأت تلك الليلة، وأغلب المصريين يضعون أيديهم فوق قلوبهم خشية أن تتعطل أو تؤجل الانتخابات البرلمانية إما بسبب دعوة العودة إلى الاعتصام في ميدان التحرير، وإما بسبب تردد تهديدات بأن القضاة سوف يقاطعون الإشراف على هذه الانتخابات. فلو كان قد اتخذ قرار بالاعتصام في ميدان التحرير، كما تردد بقوة في بداية الليلة لكانت مصر، ومسيرتها نحو الانتقال إلى الحكم المدني قد تعرضت لنكسة خطيرة، فإما أن يفض الاعتصام بالقوة فتعود البلاد إلى مشهد حزين من الانقسام مجددا، وإما أن يترك الاعتصام لكي يستمر فتتعطل عملية انتخاب برلمان الثورة وفقا لجدولها الزمني الذي تقرر بالفعل، وبدأ تنفيذ مراحله الأولى. غير أن اتخاذ القرار بعدم الاعتصام بالطريقة التي اتخذ بها ينبئ أن العقل والشعور بالمسئولية الوطنية لم يغيبا عن مصر كلية، كما أنه ينبئ بأن الحكومة والأحزاب والنشطاء السياسيين بينهم الكثيرون ممن يستطيعون في أحلك الظروف إدارة الأزمات، إذا أرادوا، وإذا قاموا بالعمل السياسي الصحيح، وهو الاتصال والتفاوض والحوار، والوصول إلى الحلول الوسط، التي هي بطبيعتها جوهر العمل السياسي الديمقراطي، والشاهد على ذلك أن القرار تضمن في لحظة إعلانه إشارة إلى هذه الاتصالات والمفاوضات والاتفاقات. إن هذه الروح أي روح البحث عن الحل الوسط الذي يقبله الجميع، ويحفظ للوطن سلامته، وللشعب استمرار حياته، وللعملية الديمقراطية اكتمالها هي ما يجب أن يسود بين الجميع، خاصة بين تلك القطاعات المهمة جدا والمميزة جدا من نخبة المجتمع في مختلف المجالات، لأنه حدث في تلك الليلة نفسها ما لا يتخيله عقل في مكان آخر يعد قدسا من أقداس الوطن، وهو ما حدث بين المحامين والقضاة حول دار القضاء العالي بعد انفضاض الجمعية العمومية الطارئة للقضاة، إذ كيف سمح جناحا العدالة أن يصل الخلاف لدى بعضهم إلى حد التشابك بالأيدي، وإطلاق أعيره نارية في الهواء، وكل ذلك على مرأى ومسمع من عموم المصريين، ومن العالم كله، بما يوحي بأن المصريين لم يعودوا يعرفون خطا أحمر يقفون عنده لمنع انهيار الدولة، ومن ثم الوطن، فالعدالة كانت دائما هي الملاذ الأخير للمواطن وللوطن نفسه، بدليل أن كثيرا من الخطوات التي طالبت بها ثورة 25 يناير جاءت من خلال القضاء نفسه، كالحكم بحل المجالس المحلية، وحل الحزب الوطني الفاسد والحاكم سابقا، وأخيرا الحكم التاريخي للقضاء الإداري بتمكين المصريين في الخارج من التصويت في كل انتخابات عامة مصرية نيابية كانت أم رئاسية. وهذه الأحكام ذاتها شارك في استصدارها محامون تقدموا بالدعوات، وواصلوا الدفاع عن حقوق المصريين من خلالها، فكيف إذن تترك الخلافات بين جناحي العدالة لتصل إلى هذه الدرجة المشينة من أسلوب إدارتها، وكيف يمكن أن تصل إلى هذه الدرجة من الاستقطاب الذي لا يدع مجالا لأي فرصة للوصول إلى حل وسط؟ وهل تنطبق هنا مقولة الدكتور أحمد كمال أبو المجد لي مؤخرا أن المصريين لم يعودوا يحسنون سوى الاقتتال مع بعضهم البعض؟ لكن مع ذلك، وكما ظهر الضوء في نهاية نفق ليلة الجمعة الماضية بجهود حثيثة من أطراف كثيرة نعلم أن بعضها كان من أعلى المستويات، وأطراف أخرى لا نعلم عنها شيئا، ولكنها تستحق الشكر والعرفان، وكما استجاب منظمو جمعة المطلب الواحد لنداء عدم الاعتصام حرصا على استمرار عملية إجراء الانتخابات البرلمانية في مواعيدها المحددة مقابل تعهدات محددة،، فقد ظهر ضوء أيضا في نهاية النفق المظلم للفتنة بين المحامين والقضاة حين تغلبت الحكمة المعهودة في قضاة مصر، واستبعد قرار مقاطعة الإشراف القضائي على هذه الانتخابات، وقال المستشار حسام الغرياني رئيس المجلس الأعلى للقضاء: إن القضاة لن يقاطعوا الإشراف على الانتخابات من أجل مصر. المعني المشترك في الحالتين هو أن معظم الأطراف حريصة على أن تبقي بابا مفتوحا عندما يكاد الخطر يصل إلى مصير الوطن نفسه. وقد تجلى ذلك مرة ثالثة يوم الثلاثاء الماضي عندما اتفق القضاة والمحامون على انهاء الخلافات بينهم، واحالة البت في مشروع قانون استقلال سلطة القضاء للبرلمان المنتخب المقبل، وذلك بعد تدخل متأخر بما يثير التساؤلات، ويستحق اللوم من الحكومة متمثلة في رئيس الوزراء، ووزير العدل، ومع ذلك فإن ماحدث في حقيقته، ومع الاعتراف بأنه تطور إيجابي، فإنه لم يفعل سوى ترحيل المشكلة حول المادة 18 من مشروع القانون المقترح، فمن الذي يضمن أن القضاة لن يصروا على استبقائها حين يطرح المشروع على البرلمان ؟ ومن ذا الذي يضمن أن المحامين لن يرفضوها، ويتجدد النزاع، لكن الدلالة الإيجابية هي الأولى بالاهتمام حاليا، نظرا لأن الطرفين اتفقا على أن انهاء الخلاف حاليا هو من صميم المصالح العليا للوطن، ومن الضمانات المهمة لاجراء الانتخابات في موعدها، ليس فقط لأنه لم يعد هناك تهديد بمقاطعة القضاة للإشراف عليها، ولكن أيضا لأن المحاكم التي كان قد أغلق معظمها، هي مقار فروع اللجنة العليا للانتخابات لمتابعة اجراءاتها من استقبال لأوراق المرشحين، واستقبال الطعون.... الخ. ومن باب الاستطراد دعونا نقترح بداية جديدة لتسوية الخلاف بين المحامين والقضاة تسوية دائمة، ووأد فتنة العدالة قبل أن تطل برأسها مرة أخرى، لعل النجاح هنا يغري بالنجاح في سائر الخصومات ولا مفر لنا وللطرفين من أن نعترف أن المشكلة لم تبدأ مع نص المادة 18 من المشروع المقترح لاستقلال السلطة القضائية، فهي لم تكن قط من المبادئ الراسخة لتحقيق الاستقلال المنشود للسلطة القضائية، والتي كان أهمها إلغاء تبعية التفتيش القضائي لوزارة العدل، وإلغاء سلطة وزير العدل في تعيين رؤساء المحاكم الابتدائية، وإقرار مبدأ الميزانية المستقلة للمجلس الأعلى للقضاء، واختيار النائب العام من قبل هذا المجلس الأعلي، ولم يكن حق القضاة في معاقبة المحامي المتجاوز واردا في أي لحظة على لائحة مطالب تيار الاستقلال قبل ثورة 25 يناير. وإذن فإن هذه المادة هي وليدة ظروف طرأت وأدت إلى انهيار بعض التقاليد داخل قاعات المحاكم، وهي على أي حال ظروف مرتبطة بحالة الاضطراب والخلل في كثير من مؤسسات الدولة المصرية بعد الثورة لتفريغ ما في جوف المجتمع المصري من ملوثات تراكمت عبر عقود طويلة من الاستبداد والفساد والشك المتبادل. كذلك لا يمكن فصل ما حدث ويحدث بين سدنة العدالة من قضاة، وحراسها من المحامين عما سبق من احتكاكات بين الجانبين، كان أبرزها تلك المشكلة التي وقعت بين النيابة العامة والمحامين في طنطا منذ عدة أعوام، وترتب عليها دخول المحامين في إضراب، وتحد للنيابة العامة، وأمكن في نهاية المطاف تسويتها. وبما أننا نسلم بأنه لا وصاية لأحد على القضاء وعلى مجلسه الأعلى، وأن نقابة المحامين هي سيدة قرارها، فإننا نحث الطرفين إلى المبادرة منذ الآن بتشكيل لجنة حكماء من الجانبين، ومن أساتذة وفقهاء القانون، وشيوخ القضاء السابقين، وكذلك شيوخ مهنة المحاماة الجليلة لاقتراح مشروع ميثاق شرف يحكم العلاقة بين المحامي والقاضي في قاعة المحكمة، وبالطبع سوف ينص هذا الميثاق الذي يجب الوصول إليه بالحوار على قواعد للتعامل بين الطرفين، وعلى عقوبات تأديبية على مخالفة هذه القواعد، أمام مجلس نقابة المحامين في حالة خروج المحامي على قواعد ميثاق الشرف، وأمام المجلس الأعلى للقضاء في حالة تعسف القاضي ضد المحامين. إن الوصول إلى ميثاق الشرف المقترح هذا سوف يحل تلقائيا مشكلة المادة 18 ولكن لكي يتحقق هذا الاقتراح لا مفر من أن نطالب القضاة والمحامين بتخفيف حدة الاستقطاب، والاستعداد للتخلي عن المواقف غير القابلة للتفاوض، كما يجب على الطرفين استبعاد الحسابات السياسية والنقابية المباشرة من معطيات النظر والبت في هذا الاقتراح. أخذنا الاستطراد في تفاصيل أزمة القضاة والمحامين قليلا من التركيز المقصود من هذه السطور على بذل كل جهد ممكن لإنجاح الانتخابات البرلمانية المقبلة، وعدم الانسياق وراء أي دعوة أو ذريعة لتعطيلها، أو إرجائها أو إلغائها لأن غالبية المصريين يتفقون على أن هذه الانتخابات هي أول خطوة على الطريق للتحول الديمقراطي، فإذا نجحت قادت إلى الخطوات التي تليها، وإذا أخفقت أدخلنا أنفسنا في متاهة ليس لدى أحد خطة للخروج منها، ولذا فقد كان المصريون يضعون أيديهم فوق قلوبهم ليلة الجمعة الماضية خوفا من أن تؤدي العودة إلى الاعتصامات إلى إرباك الجميع، بما يهدد الانتخابات، وخوفا من أن تتطور تهديدات البعض بعدم اشراف القضاء على الانتخابات إلى قرار، ولكن الله سلم. ليس معنى ما تقدم كله أن كل الضمانات لإجراء الانتخابات المقبلة بنجاح متوافرة، فهناك بالقطع صعوبات جمة وخطيرة لاتزال جاثمة على الطريق، وأولها بالطبع القلق من عدم القدرة على تأمين المقار الانتخابية، والناخبين بسبب انتشار ظاهرة الانفلات الأمني، وبسبب وجود ظاهرة متأصلة في المجتمع المصري تعرف باسم بلطجية الانتخابات لكن النجاح هنا ممكن بنسبة كبيرة، قياسا على السوابق،، فقد أجري الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 19 مارس الماضي في ظروف مماثلة، ولكنه نجح، ولم تقع فيه حادثة عنف واحدة تقريبا على الرغم من أنه شهد اقبالا غير مسبوق من المواطنين. وكذلك كان هناك خوف لدى الجميع من أن يؤدي الانفلات الأمني إلى فشل امتحانات الثانوية العامة، أو عدم إجرائها ومع ذلك فقد جرت الامتحانات في هدوء، تحت مظلة التأمين المشترك من الشرطة والقوات المسلحة. من هاتين السابقتين يمكن أن نتوقع نجاح خطة تأمين الانتخابات المقبلة التي سوف تطبق بالطريقة نفسها، أي التعاون بين الشرطة والقوات المسلحة، ونحن نعرف أنه منذ أيام بدأت حملات مداهمة لأوكار بلطجية الانتخابات في ضربة استباقية وقائية. إذن فالشعب يريد الانتخابات في مواعيدها، ويعلق عليها أمله في التحول الديمقراطي، والقوى السياسية تريد ذلك، وبذلت من أجله جهدا للحيلولة دون عودة الاعتصامات المفتوحة إلى ميدان التحرير، وكذلك سلطات الدولة، والقضاة قرروا الالتزام بالإشراف عليها بغض النظر عن خلافاتهم مع المحامين، أو مع السلطات حول موعد صدور القانون الجديد لاستقلال القضاء وما يجمع بين هؤلاء هو الاتفاق على أن كل شئ يجب أن يفعل من أجل مصر. نقلا عن جريدة الأهرام