لا أعتقد أن هناك وقتا يستحق أن نستلهم فيه روح أكتوبر أكثر من الوقت الحالي.. قبل أكتوبر 1973 كانت الهزيمة تلاحقنا، والاضطرابات الداخلية تموج وتتحرك ما بين مظاهرات الطلبة التي تطالب بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب، والصراع بين الرئيس الراحل أنور السادات والقوى المناوئة له فيما عرف بمراكز القوى، وقبل هذا كانت مصر قد استيقظت على كابوس ثقيل حينما وقعت هزيمة 1967.. تلك الهزيمة التي كانت محصلة لتآمر القوى الخارجية التي استغلت الحالة الداخلية المتردية بعد أن تم تغييب العقل، وأصبح الشعب يسير معصوب العينين وراء الشعارات والأغاني الحماسية الثورية التي لا تقدم ولا تؤخر، وتبيع الوهم للمواطنين الأبرياء بأنهم أصبحوا في طليعة الشعوب، وأنهم قادرون على إلقاء إسرائيل وحليفتها أمريكا في البحر بمجرد أن تدق ساعة المعركة، إلا أن المفاجأة المدوية التي أخرست الألسنة وحطمت القلوب كانت في انتظار الشعب المصري حينما اجتاح العدو الصهيوني الأراضي العربية المحتلة في فلسطين والجولان وسيناء في 6 ساعات فقط.. ليتها كانت معركة استمرت أيام وشهورا.. لكنها للأسف لم تستمر سوى 6 ساعات فقط، ومن هنا كان هول الصاعقة التي أحرقت وجوه وعقول الجميع، وزلزلت الأرض من تحت الأقدام. كانت السنوات الست التي تلت الهزيمة هي السنوات الأصعب في التاريخ المصري الحديث، في ظل حالة من فقدان الثقة بكل شيء، وعدم القدرة على تخطي تلك الحالة، وما زاد الموقف تعقيدا هو تكرار الوعود ببدء المعركة غير أن ظروف الإعداد والتجهيز كانت تحول دون إتمام ضربة البداية حتى كان السادس من أكتوبر العاشر من رمضان، وفي تمام الساعة الثانية ظهرا، أذيع البيان رقم واحد بقيام الطائرات المصرية بدق معاقل العدو الإسرائيلي لتمهد الطريق أمام عبور الجيش المصري لقناة السويس، وتحطيم خط بارليف أكبر عائق مائي اقامه جيش العدو ليمنع المصريين من مجرد التفكير في مغامرة العبور.. لكن الإرادة الصلبة والثقة بالنفس والإيمان بالله قبل هذا وذاك جعل المستحيل واقعا والحلم حقيقة لينهار الجيش الإسرائيلي ويذوق المرارة والخزي لأول مرة في تاريخه ولتطوى نهائيا صفحة الجيش الذي لا يهزم أمام جنود مصر البواسل من أصغر جندي إلى أعلى رتبة. تحية إعزاز وتقدير إلى صاحب قرار الحرب الرئيس الراحل أنور السادات وإلى كل جنود وقواد الجيش المصري العظيم في ذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة التي اعادت إلى المصريين كرامتهم وعزتهم فلا كرامة مع احتلال ولا عزة مع هزيمة وانكسار. اليوم نحن أحوج ما نكون إلى روح أكتوبر المجيدة، ولو كان أكتوبر يتحدث لصرخ بأعلى صوته إلى المصريين الشرفاء في طول البلاد وعرضها من أجل الوحدة ولم الشمل ونبذ الخلافات والتعصب والكراهية كما حدث عام 1973. مصر الآن في مفترق طرق.. إما أن تصعد وتنهض أو لاقدر الله يحدث العكس.. لأن الثورات كما تعلمنا من دروس التاريخ ليست هدفا في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة للنهوض والتقدم أو العكس، وإلا كانت الثورات العربية التي قامت في الخمسينيات والستينيات التي ملأت الدنيا ضجيجا وصخبا قد نجحت وجنبت شعوبها ويلات ماهي فيه الآن... انقلبت الثورات العربية إلى أفعال ديكتاتورية حينما قسمت الشعوب إلى مع وضد الثورة.. إلى ثوري وإلى رجعي.. إلى تأليه قواد الثورة، والتنكيل بكل من يختلف معهم في الرأي.. من هنا كان الفشل الذريع لكل تلك الثورات بلا استثناء، وكلما أزدادت وانتشرت هذه الأفعال كان الفشل أكبر كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن وقبلهم العراق وغيره. ليس من الحكمة تكرار أخطاء الثورات السابقة وليت ذكرى أكتوبر تجعل القوى السياسية والتيارات وائتلافات الثورة وكل جموع الشعب المصري تقف لحظة صدق مع النفس، وتعيد ترتيب الأوراق لتنظر إلى المستقبل أكثر من مما تغرس في الماضي، وتتفق أكثر مما تختلف، وتتكامل أكثر مما تتصارع، وتبحث عن القوائم المشتركة أكثر مما تبحث عن الاختلافات بعيدا عن المصالح الشخصية أو الحزبية الضيقة أو شهوات الانتقام والتشفي. نقلا عن جريدة الأهرام