أشد ما يثير القلق ونحن نقترب من موعد الانتخابات البرلمانية, التفشي الظاهر للفوضي المنظمة, وهو ما يوجد إحساسا طاغيا بضرورة ضبط الوضع الأمني بكل الصور المتاحة والممكنة, وبأسرع وقت ممكن. فتلك أولوية قصوي تؤكد صورة دولة القانون, وحيث لاتزال تعلق بالذاكرة, سلوكيات البلطجية مطلقي السراح, في آخر انتخابات برلمانية في عهد النظام السابق, وما كانوا يرتكبونه من أفعال إجرامية جهارا نهارا دون خوف من ردع, أو سطوة قانون. إن ظاهرة الفوضي اليومية التي لاتفارقنا, ربما تعيد الي الأذهان, ما كان قد شغلنا في السنوات الأخيرة, عن نظرية الفوضي الخلاقة, وهو ما يدفع للتساؤل عما اذا كانت هناك صلة أو أوجه تشابه بين الاثنين. وبداية قد شاع فهم غير صحيح عن أن كوندوليزا رايس هي صاحبة هذه النظرية, لكن الحقيقة أن رايس استخدمت مصطلحا كان قد سبقها إليه واضع النظرية, والذي كان قد سماها في البداية الفوضي التدميرية, ثم أعاد تسميتها بالفوضي الخلاقة, هذا الرجل هو مايكل لادين, وهو من أبرز مفكري جماعة المحافظين الجدد, ومن كبار خبرائها في معهد أميركان انتربرايز, الذي كان يعرف بالقلعة الفكرية للمحافظين الجدد. لكن ما شهدناه في مصر منذ أن تتابعت أشكال, وسلوكيات البلطجية, ضمن عمل الثورة المضادة, يكشف لنا أننا أمام صنف من الفوضي التدميرية محلية الصنع, حتي وإن استفادت من بعض ملامح الفوضي المستوردة, وبمواصفات تتفق مع أهداف الذين سبق لهم أن أوجدوها, استجابة لمنطق تفكير واحتياجات النظام السابق, ثم إعادة تنشيطها بعد ثورة 25 يناير, بطريقة منظمة. إن خطورة ظاهرة البلطجة الحديثة في مصر, أن لها أساسا قديما, فقد تأسست علي يد جهاز أمن الدولة المنحل الذي أقام لها قاعدة عمل مصرح بها وكان ذلك استجابة لطبيعة حكم الرئيس السابق الذي أقام حكمه علي مبدأ أمن النظام, بديلا عن مفهوم الأمن القومي للدولة, وهو مبدأ سارت عليه الأنظمة الديكتاتورية, تأمينا لاستمرارية بقائها الأبدي في الحكم. هذا المبدأ يرسي أسس الدولة البوليسية, ويستخدم أمن الدولة في البطش بالمعارضين, أو حتي المستقلين, وإقصاء من لا يخضع نفسه طواعية لخدمة النظام. كان أمن الدولة قد استخدم البلطجة كواجهة يتستر وراءها, وهو يحركهم بالمال والنفوذ والحماية, منذ أن ابتدع منهج صناعة البلطجة, وتقنين وجود البلطجية الذين تحولوا الي ما يشبه التنظيم, الجاهز للتعدي علي من يقومون بمظاهرات احتجاجية, رأينا مشاهدها في ميادين وشوارع وسط القاهرة, وأمام نقابة الصحفيين. وتصاعد تواجدهم العلني في أوقات التصويت في الحملات الانتخابية, وبأجور يدفعها لهم كثير من مرشحي الحزب الوطني, وكانوا يتصرفون بجرأة بالغة وهم يقفون في الدوائر الانتخابية حاملين الأسلحة, ومتأهبين للاعتداء علي منافسي المرشح الذي يغدق عليهم الأموال. إن وزير العدل الحالي قدر عدد البلطجية في مصر الآن بنصف مليون فرد, يتقاضون الواحد منهم خمسة آلاف جنيه مقابل المهمة الواحدة, وقدر مسئول آخر بالداخلية عدد المسجلين خطر بأكثر من مائة ألف مسجل, واتفقت دراسات للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية علي الرعاية التي كان يوفرها جهاز أمن الدولة للبلطجية. وكان قيام الثورة في 25 يناير قد أصاب تجارتهم الفاسدة بالكساد, ولما كانت ظروف داخلية منذ ثورة 25 يناير قد سمحت لهم بالعودة للنشاط الفوضوي الإجرامي, فقد التقت مصالحهم, مع مصالح عناصر الثورة المضادة المرتبطة بالنظام السابق, والتي ساءها سقوط النظام الذي لم يكن فسادها ليزدهر إلا في ظله. لقد صدرت تصريحات رسمية عن الملايين التي تدفقت علي مصر من دول خارجية, والتي تضخم من رصيد خزينة تمويل أعمال البلطجة المنظمة وفوضاها التدميرية, وتبدت مظاهرها العديدة في مناسبات متكررة في ميدان التحرير, وفي الأحداث الأخيرة أمام السفارة الإسرائيلية, وأمن الدولة بالجيزة, وغيرها. إن الفوضي المنظمة في الشارع, والتي تستهدف ثورة شعب مصر, وتتربص بأمنه, وبمستقبله, وأهدافه في بناء دولة حديثة ناهضة ومزدهرة, هذه الفوضي لها مظاهرها الصارخة والواضحة وضوح الشمس, إليس من إجراءات حاسمة وسريعة, تردع محركيها, وأدواتها, فإن مثل هذه الخطوة, تعتبر اليوم أشد إلحاحا من أي شئ آخر, ونحن نقترب من موعد الانتخابات البرلمانية وليس مستبعدا بأي شكل, أن صناع الفوضي المدمرة, لن يفوتوا فرصة كهذه, اذا لم يكن هناك إجراء استباقي يبطل مسعاهم الإجرامي ويكسر شوكتهم, وفي حدود القانون القائم الذي يوفر هذه الإجراءات. نقلا عن صحيفة الاهرام