حسنا تلك الدعوة إلى حوار مجتمعي بشأن استدعاء أو إحياء قانون الغدر للتطبيق، حتى ولو كان ذلك مصحوبا بتعديل لبعض مواده، وحسنا تلك الدعوة إلى تطهير الحياة السياسية وتصحيح مسارها، لكن الذي ليس حسنا مطلقا إحياء المرسوم بقانون من العدم واستعادة الساقط بعد مرور نحو ستين عاما على صدور المرسوم رقم 344/1952 في شأن جريمة الغدر منذ 22 ديسمبر 1952 والدعوة إلى تطبيق مواده، حتى ولو تم تعديل لبعضها، لأن ذلك يعتبر إعلانا عن إفلاس سياسي قاتل، وهذه هي الأسباب: أولا: أنه غير صحيح في المنهج التشريعي أن المرسوم بقانون مازال حيا، والصحيح أنه قد صار إلى العدم، لأن الذي يطالع تاريخ إصداره وديباجته، يقف على أنه صدر مصاحبا لثورة 1952، وقبل الإعلان عن تشكيل مجلس قيادة الثورة.. وبعد الإعلان عن سقوط دستور.. 23 وفي غيبة البرلمان.. ولم تكن قد شكلت المؤسسات الدستورية، وفي غيبة من الشرعية الدستورية واستنادا إلى الشرعية الثورية..!! فصدر المرسوم عن سلطة مشكوك في شرعيتها الدستورية والتي عهدت إلى رئيس حركة الجيش إدارة الحكم ورئاسة مجلس الوزراء، أمر ملكي صدر عن الوصي المؤقت على العرش محمد رشاد مهنا محمد بهي الدين بركات محمد عبدالمنعم في 7 سبتمبر 1952!! ثانيا: أن المرسوم بقانون بشأن جريمة الغدر، صدر باسم ملك مصر والسودان وبعد تنازله عن العرش، وزوال صفته بقوة الثورة، وإفتاء قسم الرأي مجتمعا بمجلس الدولة، بشرعية وقيام أوصياء مؤقتين على العرش، وبالتالي فالمرسوم يعبر عن رؤية مصدره من الأوصياء المؤقتين على العرش في تحديد الجرائم السياسية والعقوبات من ذات نوع الجريمة في حقبة من الزمن غابت عنها الشرعية الدستورية مطلقا. ثالثا: أن الأحكام التي تضمنها المرسوم، تتفق مع حالة الضرورة المصاحبة للثورة والأحكام العرفية السائدة منذ عام 1939 لهذا كانت العقوبات على تلك الجرائم السياسية بأثر رجعي اعتبارا من تاريخ إعلان الأحكام العرفية في سبتمبر 39 وحتى قيام الثورة عام 1952!! وفي نظر مصدر المرسوم، الأوصياء على العرش، وحركة الجيش، أنها تطهير للحياة السياسية التي سادت خلال تلك الحقبة من الزمن، وهي ذات الأسباب التي دفعت لقيام الثورة، بإصدار المرسوم رقم 241/52 في 16 أكتوبر 52 بالعفو الشامل عن الجنايات والجنح ولو كانت مصاحبة لجرائم قتل متى كانت قد ارتكبت بغرض سياسي. رابعا: واتساقا مع طبيعة تلك الأحكام والفترة التي صدر فيها المرسوم، كان تشكيل محكمة الغدر كمحكمة استثنائية أو محكمة خاصة تعاقب على تلك الأفعال، ومشكل من عناصر مختلطة من الضباط ورجال القضاء.. وتصدر الأحكام نهائية عن تلك الجرائم السياسية بأثر رجعي ومنذ إعلان الأحكام العرفية وغير قابلة للطعن!! وهذه المبادىء كلها مبادىء لا تتفق مع القواعد الدستورية التي نشأت في البلاد وترسخت عبر ستين عاما. خامسا: أنه بصدور إعلان الجمهورية في 18 يونيو عام.. 1953 وتطبيق القانون فلقد انقضى وتحقق أثره في تلك المرحلة، وصدرت بعدها عدة دساتير متعاقبة في البلاد منذ دستور.. 56.. 58.. 64.. 71، كما صدرت تشريعات فرض الحراسة.. وتأمين سلامة الشعب.. وحماية القيم من العيب.. التي واجهت بعض الجرائم ذات الطابع السياسي من ذات الطبيعة.. وقررت لها عقوبات ومحاكمات استثنائية عن طريق جهاز المدعي الأشتراكي.. ومحكمة القيم.. وكأنه قد أعيد تنظيم ذات الأفعال.. بعقوبات أخرى.. وأسقطت المرسوم بقانون الغدر ضمنا.. لأن إلغاء التشريع كما يكون صراحة يمكن أن يكون الإلغاء ضمنا. سادسا: حتى ولو فرضنا جدلا، استمرار حياة المرسوم بقانون الغدر.. فإن تعديل بعض مواده لن يحقق أثره في تطهير الحياة السياسية وتوقيع جزاءات سياسية ضد من أفسدوا الحياة السياسية أو أفسدوا نظام الحكم، خاصة وأننا على أبواب الانتخابات التشريعية، فإذا كان مقصود التعديل تطبيق الجزاءات على من أفسدوا الحياة السياسية أو من أفسدوا الحكم في الفترة السابقة بإبعادهم عن الترشح للمقاعد النيابية أو الحزبية أو السياسية أو الوظائف العامة.. فمتى سيحاكم هؤلاء.. ومتى تصدر بشأنهم الأحكام.. ومتى يتم الطعن عليها.. ومتى تنفذ.. وهل يلحق ذلك كله الحياة السياسية الجديدة.. ونحن على أبوابها.. ولسوف يأتي التعديل والتطبيق بعد الأوان ولن يحقق مقصده!! سابعا: نعم هناك من أفسدوا الحياة السياسية.. ونظام الحكم.. وهو واقع غير منكور.. والشعب يريد تطهير الحياة السياسية ممن أفسدوها بجزاءات سياسية.. وإبعادهم ولو مؤقتا، حتى تستقيم الحياة السياسية والنيابية والحزبية في بداية انطلاقة جديدة من مصر، ويمكن أن يتحقق ذات الغرض بإضافة جريمة الغدر على التشريعات القائمة كشرط من شروط مباشرة الحقوق السياسية وشروط الترشيح.. وتولي الوظائف العامة والسياسية.. بألا يكون المرشح قد أفسد الحياة السياسية والحزبية أو نظام الحكم، وأن يكون حق الطعن في تحقق هذه الشروط والفصل فيها أمام القضاء!! عندئذ نتفادى ذلك الاستدعاء لتشريع قد مات أو تطبيقه بأثر رجعي.. مناقضا للشرعية الدستورية.. وللإعلان الدستوري القائم، وحتى نغلق أبواب التشفي.. والانتقام.. وتصفية الحسابات..