عندما تستدعي الحكومة المرسوم بقانون رقم 344 الصادر عام 1952 في شأن جريمة الغدر، لإجراء بعض التعديلات علي مواده، وإحيائه من الموات تمهيدا لتطبيقه،بعد مضي نحو ستين عاما علي صدوره ، وقد تغيرت الدنيا، وعندما تحظي هذه الدعوة باهتمام كبير لدي المتخصصين والسياسيين وجموع المواطنين، وتعلن الحكومة أنها قد وضعت المشروع علي موقعها للحوار، وأنها ترحب بنتائج الحوار المجتمعي، فإن هذا الأمر يتطلب الانتباه والتأني قبل إحالة التعديلات الي المجلس العسكري، وقبل إصدارها وإلا كانت الدعوة الي تلك الحوارات دخانا في الهواء!! وتكاد الناس لا تصدق عندما تسمع عن إحياء المرسوم بقانون «جريمة الغدر» بعد ستين عاما علي صدوره، رغم أن تطهير الحياة السياسية ممن أفسدوها وأفسدوا نظام الحكم خلالها، مطلب إصلاحي ضروري وعادل، لكن المشكلة الحقيقية أننا نحصر أنفسنا في طريق واحد، وكأننا قد عجزنا عن إيجاد السبل التشريعية وأغلقنا الأبواب لتحقيق ذات الغرض، ولم يعد أمامنا إلا ذلك المرسوم القديم الذي صدر في ظروف استثنائية، ومن سلطة اهتزت شرعيتها، ونفذت أحكامها التي كانت تتناسب مع ذلك الزمان القديم، ولم تعد مناسبة مطلقا مع زماننا الذي نعيش فيه، وكأننا في حالة جمود تشريعي، أونقف عند باب القانون الروماني القديم! قالت الحكومة إنها قد أجرت تعديلاتها، وأنها أحالت المواد المعدلة الي المجلس العسكري لإصدارها، رغم معارضة وتحفظات العلماء والمتخصصين علي المشروعية الدستورية لهذه التعديلات، وهو ما كشفت عنه الصحافة والحوارات الإعلامية، وكذلك الحلقة النقاشية التي جرت يوم السبت 6 أغسطس في حرم كلية الحقوق جامعة القاهرة، التي جمعت العلماء والمتخصصين والسياسيين، وانتهت الي تأكيد معارضتها لهذه التعديلات لعدم الدستورية، وفي اجتماع مجلس الوزراء الأسبوع الماضي قالت لنا الحكومة أنها أجرت بعض التعديلات وأعلنتها علي موقعها وأنها في انتظار التعليقات والذي نخشاه أن كون الدعوة للنقاش دخانا في الهواء!! والمدهش أننا جميعا متفقون علي ضرورة تطهير الحياة السياسية مماأصابها وممن غدروا بها وأفسدوها زؤشاركوا في إفساد الحكم خلالها.. بل متفقون كذلك علي الأفعال التي حددها المرسوم، واعتبرها جريمة الغدر، سواء تلك التي أضرت بالبلاد أو بالتهاون فيها، أومخالفة القوانين واستغلال النفوذ، والتأثير في القضاة أو أي سلطة أخري، أو التدخل الضار في أعمال الموظفين واعتبار ذلك كله غدرا بالحياة السياسية، نعم كلنا متفقون علي كل ذلك! بل متفقون كذلك علي أن الجزاءات عن تلك الأفعال، من ذات جنس العمل، بسقوط عضو البرلمان أوالحرمان من الانتخاب أو الترشح مؤقتا، أو الانتماء الي أي حزب سياسي أو الحرمان من تولي الوظائف العامة أو عضوية مجالس الإدارة أو الاشتغال بالمهن الحرة، وهي كلها جزاءاتوإجراءات من شأنها تطهير الحياة السياسية. لكن الخلاف الجذري أن نلزم أنفسنا بإحياء مرسوم قانون سقط أو مات منذ بعيد، ونصرّ علي إحيائه بإدخال تعديلات علي نصوصه، رغم إمكانية تحقيق ذات الغاية بتعديلات لنصوص تشريعية حية وقائمة وبغير طريق إحياء الموات، بإضافة شرط جديد الي شروط قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون مجلسي الشعب والشوري وقانون الأحزاب السياسية وقانون الوظيفة العامة، بألا يكون من يمارس هذه الحقوق قد أفسد الحياة السياسية أو نظام الحكم، وأن نقرر طريق الطعن قضائيا علي تحقيق شرط الغدر، وإفساد الحياة السياسية بشروطها وأوصافها وكيفية الطعن عليها! أما الإصرار علي إدخال تعديلات لمرسوم ميت فهو إقرار بحالة «شح» أو «جمود تشريعي» غير مسبوق لا نرضاه لأنفسنا، ويسع الحكومة أن تلجأ الي أبواب قسم التشريع بمجلس الدولة لتعرض عليه التعديلات المقترحة حتي تطمئن الي سلامة التشريع. ولأن إجراء تعديلات علي مرسوم مات، لن يبعثه الي الحياة لأن الساقط لا يعود، وهو ساقط بالفعل بالنظر الي السلطة التي أصدرته.. وظروف إصداره.. والأحكام التي تضمنها والتي تتناقض مع المبادئ الدستورية.. وأحكام القضاء. فالسلطة التي أصدرت المرسوم «الميت» في شرعيتها.. إذ صدرالمرسوم وقتئذ من «ملك مصر والسودان.. ووصي العرش المؤقت» بعد الإعلان عن سقوط دستور 1923.. وحل البرلمان وقبل الإعلان عن النظام الجمهوري استجابة لحالة «ضرورة في البلاد» واتخاذ تدابير لحماية حركة 23 يوليو 1952 وتطهير للحياة السياسية منذ إعلان الأحكام العرفية في سبتمبر 1939 حتي صدور المرسوم عام 1952 وسريان أحكامه بأثر رجعي!! فكان مرسوما استثنائيا صدر في ظروف الضرورة من سلطة مشكوك في شرعيتها دستوريا وقد حقق غرضه بأحكام محكمة الغدر وسقط مع الزمن ضمنا بإعادة تنظيم جديد بفرض الحراسة وتأمين سلامة الشعب عام 1971 والذي ألغي بعد ذلك، فلا يحتمل معه بعد ذلك تعديلا!! يؤكد ذلك ما كشفت عنه أحكام المرسوم الميت من سريان الجزاءات والعقوبات بأثر رجعي.. وصدور الأحكام من محكمة ذات تشكيل مختلط من أربعة ضباط عظام بالقوات المسلحة، وثلاثة من القضاة يعينهم وزير العدل، أحكامها غير قابلة للطعن.. وهي كلها أحكام صدرت في ظروف شرعية ثورية عام 1952، ولم تعد تصلح في زماننا المعاصر لتعارضها مع الشرعية الدستورية التي أعلن عنها المجلس العسكري وانحاز اليها، وكشف عنها الإعلان الدستور ذاته. أيها السادة لا يصحح ما أُفسد في الحياة السياسية إحياء مرسوم ساقط صدر في ظروف استثنائية بعد أن سقط صراحة أوضمنا.. ويتطلب الأمر منا لتطهير الحياة السياسية وإصلاحها أن نبحث عن الأداة التشريعية السليمة في نطاق المشروعية الدستورية حتي لا نواجه تطهير الحياة السياسية بأداة تشريعية مهتزة، ويمكن تحقيق ذلك بسهولة ويسر بإضافة ذلك الشرط «عدم الغدر» الي شروط الترشح والانتخابات وتولي الوظائف والانضمام الي الأحزاب ونحن علي أبواب الانتخابات، وذلك كله قبل فوات الأوان، وحتي لا نتهم بالجمود أو الشح التشريعي، والإفلاس في مواجهة تطهير الحياة السياسية!! [email protected]