في الأسبوع الماضي اختطف الحدث الليبي الأضواء ولو قليلاً من الحدث السوري، ومن هنا لم يظفر لقاء الرئيس السوري بشار الأسد المتلفز على قناته الرسمية حقه من التعليق والنقاش. لقد بدت رؤية وتصور الرئيس السوري للواقع والماضي والأحداث مناقضة لكل ما يعرفه الجميع داخل سوريا وخارجها. يعلم الشعب السوري وكل مطلعٍ على التاريخ السوري الحديث أن أشد البلايا التي حاقت بسوريا شعباً ودولةً كانت بسبب تسنّم حزب "البعث" للسلطة واستيلائه عليها منذ ما يزيد على الأربعة عقودٍ مسخت خلالها هوية البلاد، وقام النظام بتدمير منهجي لكل معاني الأمان والإنسانية لدى الشعب، وانتهج سياسة القتل والتخويف لا غير، ولكنّ الذي اتضح من اللقاء، هو أن الرئيس يعلم ما لا نعلم جميعاً، إنّه يرى أنّ حزب "البعث" هو الذي قاد الدولة لخمسة عقودٍ بإيجابية. ومع استحضار أنّ الرئيس طرح في خطابه السابق تعديل المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن حزب "البعث" هو القائد للدولة والمجتمع، وحين يعلم الجميع أنّ الشعب السوري يملأ المدن والقرى والبلدات بشعار وحيد يطالب النظام بالرحيل، فإن الرئيس السوري يرى أنّ حزب "البعث" يجب أن يحكم لخمسة عقودٍ أخرى، وأن منافسيه في الساحة السورية يحتاجون للتدريب والتطوير –طبعاً من قبل الحزب- ليصبحوا قادرين على منافسة الحزب نفسه في انتخاباتٍ قادمةٍ لا تقل مدة انتظارها عن ستة أشهرٍ! وحين يعلم الجميع أن النظام السوري لا يحترف شيئاً منذ خمسة أشهر غير تقتيل الشعب، وتسليط الأجهزة الأمنية والجيش والعسكر والشبيحة عليه، فإن الرئيس السوري يرى أمراً مختلفاً، فهو يرى أنه اختار من أول أسبوع لأحداث سوريا الحل السياسي لا الحلّ الأمنيّ. هذه رؤية الرئيس للوضع في بلاده، وهي تبدو لأصغر متابعٍ رؤيةً مناقضةً تماماً لما يجري على الأرض ولما يعلمه الجميع. ولم يتغير الوضع حين تطرّق الرئيس لمطالبات الدول الغربية له بالتنحّي فقال بالحرف الواحد: "هذا الكلام لا يقال لرئيس لا يعنيه المنصب، لا يقال لرئيس لم تأت به الولاياتالمتحدة ولم يأت به الغرب، أتى به الشعب السوري" وما دام الشعب السوري هو من أتى به، فلا أدري من أين تأتي عشرات الآلاف من البشر التي تملأ ميادين سوريا وسوحها! إجمالاً، لا أدري كيف يتعامل رئيس دولةٍ مع الواقع الدولي بمثل هذا التسطيح؟ كيف لا يعنيه إلا الداخل السوري؟ وكيف لا تهمّه أي مواقف دوليةٍ؟ وكيف يستهتر بالعقوبات الدولية؟ إنّ المواقف والعقوبات الدولية قادرة على خنق نظامه بكل يسرٍ وسهولةٍ، وإنّ القرارات الدولية قادرةٌ أن تودي بنظامه في فترة أقصر مما يمكنه أن يتخيّل. إنّ العقوبات الدولية ليست مزحةً بحالٍ، وقد قدّمت دول أوروبية بينها فرنسا الثلاثاء الماضي مشروع عقوباتٍ على سوريا تستهدف بشكل خاصٍ شخص الرئيس. شهورٌ داميةٌ خمسةٌ مرّت على سوريا كان أقوى اللاعبين فيها وأجدرهم بالإشادة هو الشعب السوري، لقد استطاع بصموده أن يجبر العالم على التعامل مع مطالبه والالتفات لحقوقه، ومناصرته في مطالبه المشروعة والسعي لوقف العدوان عليه. وصف أوباما عدداً من العقوبات التي فرضت من قبل الولاياتالمتحدة سابقاً بأنها "غير مسبوقةٍ لتعميق العزلة المالية لنظام الأسد". وأكدت هيلاري كلينتون التوجّه نفسه بتفاصيل أكثر، وقبلها كانت حزمة عقوبات أوروبية، والسؤال هنا هو ما نوع وشكل العقوبات التي ستخرج من مجلس الأمن، خاصةً أن المجازر التي يرتكبها النظام في سوريا مجازر تستحق بجدارة أن يتمّ تصنيفها كجرائم ضدّ الإنسانية. كما اعتبرها تقرير صادر من مجلس حقوق الإنسان بجنيف أحاله لمجلس الأمن لمناقشته. لقد دأب ما يعرف بمحور الممانعة على ارتكاب الجرائم تحت ظلال عمائم مؤدلجةٍ تدّعي الولاية وأحزابٍ أيديولوجية متناقضةٍ ولكنّها شرسة كحزب "البعث" العلماني في سوريا و"حزب الله" الطائفي في لبنان. لقد فعل هذا المحور الأفاعيل حين دعم أنصاره العنف وحركاته وسلّحوها ودربوها وآووها سُنياً وشيعياً، من "القاعدة" الأمّ إلى القواعد الفروع في شتى البلدان، إلى عددٍ غير قليلٍ من الحركات المسلحة في العراق سنياً وشيعياً و"الحوثيين" في اليمن. لقد أعمتهم طموحاتهم الإقليمية والأيديولوجية عن أي وازعٍ أخلاقي أو رادعٍ من ضمير أو دينٍ، فسعوا في المنطقة فساداً كيفما شاءوا، والتاريخ القريب خير شاهدٍ. لقد صنعوا الفوضى في العراق، وطالت عملياتهم وخططهم دولاً آمنةً كالبحرين، وهددوا باستهداف بعض الدول العربية في الخليج، ولقد عبّر كبيرهم الذي علّمهم البطش والعنف عن الاحتجاجات العربية حين كانت بتونس ومصر بأنها " ثورات حلوة"، ولكنّها تحوّلت في حلقه لعلقمٍ مرٍّ حين وصلت لدمشق وحمص ودرعا وحماة، فصارت راعية محور المقاومة ترسل خبراءها وقياداتها الأمنية وقنّاصتها ليسعفوا النظام السوري في أزمةٍ لم يدر بخلده أن يشهد مثلها خلال أربعين عاماً. وصارت أذيالها في المنطقة من أحزابٍ وحركاتٍ تتراقص بالريموت كنترول، فتتحرش بإسرائيل من داخل فلسطين، كما أنّ هذه الراعية تحاول بخطورةٍ بالغةٍ أن تشعل معركةً على حدود مصر مع إسرائيل، كما حرّكت "القاعدة" في العراق، وسوف تحرّك "الحوثيين" في اليمن إنْ عاجلاً أو آجلاً كما ستتلاعب ب القاعدة" هناك، إنها لا تكل ولا تملّ من مواصلة سيرها تجاه أهدافها وستفعل المستحيل حتى لا ينكسر ظهرها بسقوط نظام "البعث" في سوريا. كم هو معيب وفاضح أن يذهب حامل لواء "اجتثاث البعث" في العراق نوري المالكي إلى دمشق صاغراً ليؤيد حزب "البعث" هناك رضوخاً لأوامر أطراف إقليمية، لا خدمةً للعراق ولا اكتراثاً بشعبه ولا حرصاً على مصلحته. ما يجري في سوريا الآن هو أشبه ما يكون بما جرى في يوغسلافيا سابقاً أو ما عرف لاحقاً بمذابح البوسنة والهرسك، حيث تدخل الغرب وأقيمت محكمة دولية لمحاكمة رموز النظام السابق، ومن هنا فكما أقيمت لأولئك محكمة دولية، وكما أنشئت لاغتيال الحريري محكمة دولية، يجب أن تنشأ اليوم محكمة دولية لمحاكمة النظام السوري على ما يفعله في شعبه، فدم الحريري جدير بمحكمةٍ دوليةٍ دون شكٍ لما يمثله ويعبّر عنه، ولكنّ دماء السوريين كذلك جديرة بمحكمة دوليةٍ تتابع رموز العنف والقتل في النظام وتصدر بحقهم مذكرات اعتقال دولية. لم يبق لحماية النظام دولياً سوى روسيا الاستغلالية والصين المترقبة، ولئن كانت الصين أعجز عن أن تواجه المجتمع الدولي منفردةً، فإنّ تاريخ روسيا الحديث يوضح أنها لا تعبأ كثيراً بحلفائها قدر اهتمامها باستخدام مواقفها الدولية تجاههم في وقت الأزمات لمساومات سياسيةٍ، ومعلومٌ أنّها تخلت عن حلفائها في أزمة يوغسلافيا. وهكذا حدث مع صدّام بعد غزوه للكويت فقد استلمت ثمن السكوت عن الدفاع عنه في المحافل الدولية والأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، والموقف الروسي اليوم تجاه سوريا يعبّر عن الموقف نفسه، الذي يقول إن روسيا تريد ثمناً لتغيير موقفها تجاه سوريا. نقلا عن صحيفة الاتحاد