الانتشار السرطاني لما يسمي بالبرامج المتميزة أو المدفوعة أو الجديدة والذي شهدته الجامعات المصرية مع بداية العام الماضي استشري هذا العام بصورة مخيفة تدعو إلي القلق علي مستقبل تكافؤ الفرص. وهو تعبير سوف ينقرض ويختفي مع استمرار هذا الوحش المخيف الذي يلتهم بكل قسوة حقوق الغلابة وفرصتهم في الحصول علي تعليم جيد تحت شعارات زائفة عن التميز والجودة وترسيخ مفهوم أن الجودة لن تتحقق في ظل تكافؤ الفرص!! وأظن أن من الحكمة أن نقول إن ما جري يحتاج إلي وقفه للمراجعة والتقويم بل والتراجع.. والتراجع هنا شجاعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتفادي كارثة بدأت نذرها في الافق من تعزيز المشاعر الطبقية بين شباب نفس الكلية.. طالب غير قادر ماليا ومتفوق علميا ويلتحق بكلية من الكليات المسماه بكليات القمة كالطب أو الهندسة أو الصيدلة ولأنه طالب غير قادر ماليا يعني فقير لن يحظي بتعليم مناسب . وفي الوقت نفسه تقوم نفس الكلية وأمام عيني الطالب الفقير بتقديم تعليم متميز بفلوس لمن يقدر ماليا علي الدفع تحت مسميات خزعبلية بدأت باسم البرامج المتميزة وبفتوي قانونية هدفها تفادي أي مطب قانوني أو دستوري تحول الاسم إلي البرامج الجديدة. وسواء كان اسم هذه البرامج' الجديدة' أو' المتميزة' فتلك كلها اسماء حركية وهمية وهي أولا وأخيرا برامج' مدفوعة' يعني بفلوس. هذه البرامج التي تضع فروقا طبقية واضحة وفاصلة بين من يقدر علي أن يدفع ومن لا يقدر تتجاوز مخاطرها عملية التعليم لتصبح خطرا سياسيا واجتماعيا يهدد وبشدة الكيان الجامعي!! كما أنها اعتراف رسمي وصريح من المسئولين بأن التعليم الذي تقدمه ردئ أو علي الأقل قديم ومتخلف ولذلك توفر تعليما جيدا أو جديدا لعدد محدود من الذين يقدرون علي الدفع ليصبح الشعار هو أن التعليم بجامعات الحكومة لمن يدفع وتلك كارثة أخري ولكن يبدو أنه لا يوجد من يهتم بتلك الكوارث طالما أنها سوف تنفجر بعد سنوات!! واعترف أنني توقفت عن الكتابة حول هذه الكارثة وغيرها مما ننتظره لاقدر لها بعد شعور يتزايد بأننا ننفخ في قربة مخرومة إلي أن أدهشتني وأحرجتني رسالة عالم فاضل وأستاذ كبير لا يحتاج إلي تعريف أو كلمة تقديم هو الدكتور حامد عمار أستاذ التربية الذي يحمل علي كتفية نحو ثلاثة أرباع القرن . مهموما بقضية التعليم في مصر ورغم سنوات العمر المديدة وقد تجاوز الأستاذ المحترم86 عاما- أطال الله في عمره- والصحة التي تعاني بالضرورة متاعب الشيخوخة. هذا الأستاذ الكبير مازال يمتلك الحلم والأمل في الاصلاح ومازال صامدا شامخا يدافع ا وتعقيبا علي ما نشرناه عن' نفي غير القادرين وفي جامعات الحكومة الفقراء يمتنعون' أدهشني وأخجلني الدكتور حامد عمار برسالة اختار لها عنوانا يقول' أشاطركم الأحزان' الدكتور حامد عمار في رسالته المدهشة التي أتمني أن يقرأها الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي بعناية وأن يضعها أمام السادة أعضاء المجلس الأعلي للجامعات الموافق دائما ربما تقنعهم كلمات عالم وتاريخ قامة وقيمة مثل الدكتور حامد عمار وهو في عمر لا يطمع فيه لمنصب أو موقع ولا يسعي لشهرة أو بريق إعلامي. تقول سطور الرسالة: الأستاذ لبيب السباعي هذه خواطر مختصرة عجلي آثارها مقالكم الصريح المقتحم لما يجري في تعليمنا باسم التميز والجودة.. وهو متابعة وتأكيد لما أفضتم فيه عن الابداعات الفهلوية تفاديا والتفافا وتزييفا فيما يزعم وزراؤنا من ترقيع في اصلاح التعليم لقد قرأت مقالكم الضافي في عدد الأهرام ا بتاريخ8 أكتوبر وبه عنوانان يفصحان عما أصاب التعلم في مقتل وهما( المنفي لتعليم غير القادرين وفي جامعات الحكومة... الفقراء يمتنعون). إن ما نوهت عنه فيما جري لكلية الهندسة بجامعة القاهرة, وما أصاب التعلم الجامعي في مجمله من شماعة الجودة المنقذة من التيه إنما هي في الحقيقة طريق( الحودة) عن الصراط الاجتماعي والتربوي الصحيح. إن ما تتعرض له الجامعات من بعض السياسات والإجراءات المحزنة لا يملك المرء إزاءها إلا أن يشاطركم الأحزان في شأنها. ويتعثر قلمي باحثا عن قلم آخر ليعبر عن مشاعري بمثل ما عبرت عنه من الغضب والاختناق والحسرة والألم لهذه التطورات العجيبة التي يراد بها إصلاح التعليم الجامعي إنها إبداعات عجيبة غير مسبوقة حتي في أعتي النظم الرأسمالية. حيث من خلالها تنهدم قاعدة رئيسية لإرساء أي نمط من أنماط الديمقراطية أو أي مسعي من مساعي البناء المجتمعي في تضامنه لا تفكيكه وذلكم هي ما أشرتم إليه من تأكيد قاعدة العدل الاجتماعي و تكافؤ الفرص وإمكانات الحراك الاجتماعي وهي مناط الأمل. ومعقد الرجاء في منظومة طموحات الفرد, وفي الاستقرار الدينامي بالنسبة لمسيرة مجتمعنا آمنا متفائلا في عقلانية ورشد وتقدم. أشاطركم الأحزان كذلك فيما اتخذه مجلس كلية الهندسة في إصدار القرار المزعج من ترحيل حوالي ألف من طلابها الجدد من المتفوقين إلي مدينة الشيخ زايد دون أي إعداد وفي مبني غير مجهز بوسائط التعلم أو فسيح في قاعاته ليستوعب جميع الطلاب. ومقصد هذا الإجراء الأرعن هو إخلاء المكان التاريخي في المبني الأم للطلاب الجدد لكي يشغله أبناء القادرين علي دفع مصروفات تبلغ أكثر من(10.000) جنيه فيما يسمي( البرامج الجديدة المتميزة) وهو إقرار من المسئولين في الجامعة وفي المجلس الأعلي للجامعات بأن. لدينا سلعتين من التعليم: متميزة لأقلية معيارها مصروفات باهظة وأخري متدنية الاداء للغالبية بالمجان. ولقد وصفتم بصدق تلك المشاعر المؤلمة التي تمتلك الطلاب المرحلين إلي مدينة الشيخ زايد وما يعانونه من مشقة ومتاعب وإحساس بالدونية في مقابل زملائهم والذين حصلوا علي نفس المجاميع المتميزة في امتحان الثانوية العامة. هذا فضلا ما يصيبهم من إحباط وتذمر وسخط علي مصيرهم لا لذنب سوي أنهم من أبناء شعبنا الفقراء أو محدودي الدخل. ولقد ذكرتني هذه المجموعة المرحلة بإحساس من لا يجدون فرصة عمل مجزية في مصر ليهاجروا إلي الخارج تحت إغراءات بعض وكالات الضلال التي تعدهم بالرزق الكريم ليجدوا مصيرهم في نهاية المطاف إما غرقا في قاع البحر المتوسط أو بالقبض عليهم وحبسهم عند وصولهم إلي الشاطئ الآخر. ونحن هنا مع طلاب جدد أغرتهم الكلية بالقبول لتميزهم ثم نجدها تلقي بهم غرقي في محيط الشيخ زايد بدلا من جامعة الهندسة بالجيزة لا يدرون ما مصيرهم وما من قوارب للنجاة!! أشاطركم الأحزان أيضا لأن قصة المقررات المتميزة هي بدعة من الاختراعات الترقيعة في نظام تعليمنا المصري كله. وليدلني أحد علي أي جامعة في الدول المتقدمة تضم في نفس حرمها نفس المقررات بعضها متميز, وبعضها متدن. نحن لسنا في سينما أو مسرح أو طيارة أو في أي من المشروعات الترفيهية التجارية تتحدد وتتنوع قيمة تذاكرها حسب معيار القرب أو الراحة أو المتعة في كل منها. ونتذكر هنا أن من الإبداعات الترفيهية مشروع إنشاء كليات متميزة للمتفوقين يخصص لها(500) مليون جنيه تظهر علي الساحة بعد عامين ويقال إنها ستكون بالمجان يلتحق بها المتفوقون في الثانوية العامة بعد اجتياز اختبارات تحريرية وشفهية. وهذه تعني أن جامعاتنا الحكومية لها جسم غير قابل للتميز ومن ثم إيجاد مواقع خارجها تصلح لهذه المهمة. ومسألة مراكز التميز التي يشار إليها دائما بالإنجليزيةCentersofExcellence تقوم في بعض الدول كاليابان والصين إنما هي مراكز للبحوث الصناعية وليس للتعليم منفصلة عن الجامعات. ولها روابط وثيقة بمراكز الصناعة ومواقع الإنتاج. وفي أمريكا مثلا تمثل بعض الجامعات في نشاطاتها مراكز للتميز, مثل جامعة هارفارد, ييل, إم أي تي, جونز هوبكنز, وكال تك. ويتراوح ما يتخصص من نشاطها للبحث فيها ما بين45%-65%, بينما تذهب النسبة الباقية من مواردها للعملية التعليمية. ومن ثم تصبح عملية التميز بحثا وتعليما في بنية الجامعة بكل متطلباتهما. أما ما يجري عندنا فإنه يمثل شرذمة متعددة من المؤسسات الجامعية, جامعات مجانية للفقراء, وفي القلب منها مقررات متميزة بمصروفات وكليات متميزة لفئة قليلة من المتميزين بالمجان وجامعات خاصة, وجامعات أجنبية, إلي جانب فصول الانتساب الموجه والتعليم الإلكتروني عن بعد. ومعظمها يفتقر إلي إمكانات البحوث الجادة المبدعة نظرا لشح الموارد وقلة الاهتمام. وكل من هذه الأنواع يلتحق به طلاب مختلفون وتولد خريجين مختلفين في قيمهم وتوجهاتهم الفكرية والاجتماعية بالضرورة, مهما تم تبرير عكس ذلك. وسوف يتمخض ذلك في المستقبل القريب أو الأبعد عن شرائح اجتماعية متباينة ذات طابع طبقي تنشئه ذهنيات وثقافات مختلفة. ومن ثم فإني أشاطركم الأحزان كذلك فيما يترتب علي الاستمرار في هذه السياسة من اختلاف بين تعليم متميز وتعليم متدن علي أساس القدرة المالية وما ينجم عنها من الخسائر الاجتماعية والثقافية وزيادة الشروخ في بناء الجسم الاجتماعي إن المنطق التربوي والاجتماعي السديد يستند إلي مبدأ أن التعليم المتميز هو حق للجميع بصرف النظر عن القدرة المالية. والتعليم في جوهره يعني التعليم الكفء والجيد حيث لا تقتصر إتاحته في مقررات أو شعب خاصة وإنما ينبغي أن يتوفر أولا قبل أي اعتبار آخر في بنية الجامعات المصرية الحكومية ذاتها. وهذا هو بيت القصيد, ومربط الفرس, وموطن التحدي, وهو منطلق السعي الجاد في الإصلاح لا في عمليات( الترقيع) هنا وهناك ويتحقق ذلك دون أعذار مالية. ( وعلي وزير المال أن يدبر المال) كما قال طه حسين ما دام هو مشروع مصر القومي الأكبر حسب دعوة القيادة السياسية. ثم من ذا الذي ينكر علي التعليم الجامعي المجاني في تعميم حارف متميز عدم تخريج متميزين مهما كانت قلة لو حصرت أعدادهم لعلها تتفوق علي أعداد تلك النتوءات مما يسمي بالتعليم المتميز ويجري الاحتفال الرسمي بهم كل عام. وإذا كان بعضهم لا يجد فرصة مناسبة لدخول سوق العمل, فإن ذلك لا ينبغي أن ينسب إلي عدم الجودة في تعليمه الجامعي والأغلب أن يعزي ذلك إلي ما في سوق العمل من اختلالات وتشوهات لا يتسع المجال لتفصيلها. إننا ندعو في المقام الأول إلي توفير الموارد والاهتمام بجامعاتنا لتزايد أعداد المتميزين فيها, وليكون التعليم فيها( تعليما) بكل تجلياته وجوانبه.