لم يكن مفاجئاً أن تنطلق من بنغازي صلاة جمعة في ساحة عامة بعد انطلاق ثورتها، فقد كتب الصادق النيهوم (ابن بنغازي) قبل سنين مقالة مهمة بعنوان "من سرق خطبة الجمعة؟" وقد استعادها أهل بنغازي، ثم استعادها ميدان التحرير في مصر وساحة السبعين في اليمن، وأكدت هذه الساحات أن الإسلام حاضر بقوة في الوجدان العام على رغم كل ما عاناه المسلمون من تضييق. وبات واضحاً أن من يريد أن يقود المسلمين عليه أن يتصالح مع هذه الحقيقة بدل أن يخشى منها أو أن يسيء فهمها. وقد تعرض الإسلام لعداء كبير عبر القرون، إلا أن أعداءه مضوا وابتلعهم التاريخ وبقي الإسلام حيّاً في النفوس. ولكن المهم ألا يتوهم أحد أن هؤلاء المصلين المكبرين المتراصين في صفوف الصلوات يريدون عبر الإسلام أن يعيدوا التاريخ إلى الوراء، أو أن يستخدموه في مآرب سياسية. وقد عبرت تحولات مصر الراهنة عن وعي لهذه الحقيقة، وإن كان بعض الذين يفهمون الدعوات السلفية استعادة لتاريخ السلف الصالح في كل تفاصيل العيش فإنهم يخطئون في فهم حركة التاريخ فالشعوب المتمسكة بإسلامها تفهم أن الاقتداء بالسلف الصالح يكون في ثوابت العقائد، ولكنه لا يمكن أن يكون متطابقاً في تفاصيل الحياة وأساليب العيش، فلكل عصر أسلوبه وتجديده وفكره وثقافته، وهذا ما فهمه السلف الصالح نفسه، وقد بدا هذا الفهم أكثر تجليّاً في السياسة، فلم يقلد أحد من الخلفاء الراشدين من سبقه في أسلوب تولي الحكم، ولم تقم في المدينةالمنورة دولة دينية بمفهوم الحق الإلهي، فقد سمى أبوبكر رضي الله عنه نفسه خليفة رسول الله. ويبدو أن بعض الذين لم يدرسوا تاريخنا العربي والإسلامي دراسة عميقة، يقعون في خلط بين الديني والتاريخي، وبين المقدس والوضعي، ويظن بعضهم أن استعادة الخلافة الإسلامية (مثلاً) تكفي لتستعيد الأمة عظمتها، ولو تعمقوا في البحث لوجدوا أن قوة الأمة أو ضعفها لا شأن لهما بشكل الحكم، ففي عصر الدول المتتابعة انفرط عقد الخلافة الإسلامية التي دب فيها الانهيار، وظهر الولاة من المماليك، وأما القوة التي تحققت في عهد صلاح الدين ومكنته من الانتصار في حطين واستمد منها قطز وبيبرس دافع النصر في عين جالوت فلم تكن لها أية علاقة بشكل الحكم، فالانتصارات والإخفاقات ترتبط بظروف موضوعية لا شأن لطبيعة الحكم بها. ولم يجبر الإسلام المسلمين على شكل معين للحكم، وإن كان الإسلام مرجعية روحية وفكرية واجتماعية للمسلمين فإنه يتيح لهم أفق اختيار دنياهم وأشكال عيشهم دون المساس بثوابته من فروض وشعائر، ودون معاداة لها، وهكذا فهم السلف الصالح في عصور الازدهار الفكري والثقافي مهمتهم الحضارية فأسسوا ثقافة عالمية، وقدموا أهم الاختراعات للبشرية. ومن يفهم أن استعادة الإسلام في الحياة العامة تعني استرجاع التاريخ والتوقف عن حركة التقدم الاجتماعي والثقافي والعيش بأساليب قديمة، يخطئ في توظيف الإسلام بوصفه قوة دافعة نحو المستقبل، ويجعله قفصاً تحبس فيه الأمة ويتوقف تفكيرها، ولم يفهم الأوائل ذلك بدليل أن الاجتهاد لم يتوقف قط، وإن كان وهن في فترات الضعف السياسي. والمبالغة في الخوف من الإسلام وحضوره هي الخطر الذي يجعل الأمة تتخبط، وتقع في صراع مفتعل مع فكر وثقافة هي في جوهرها قابلة للتجدد، ولكن الخوف منها، وإطلاق الأحكام بحصارها يجعلها تعيش في حالة عدوانية تتمسك فيها بالشكلانية على حساب الجوهر، وهذا الحجر الذي يجعل الإسلام متهماً يزيد من الخطر ويحول أنصاف المثقفين إسلاميّاً إلى فهم عصبي أو عصابي، ولاسيما حين يشعرون بأن دينهم متهم أو ملاحق أو محظور، ويجعلهم الخوف عليه أكثر حماسة في الدفاع عنه، وتبرز المفارقة المأساوية حين يكون الصراع بين المسلمين أنفسهم. إن الفهم لحقيقة كون الدولة مدنية في الإسلام هو الذي أتاح له أن ينتشر في العالم، وأن يحكم المسلمون دولاً تضم مختلف الأديان والطوائف والأعراق والقوميات، ولم يكن المسلمون يحافظون على الكنس والكنائس فحسب، وإنما حافظوا على كل أنواع المعابد، ولم يهدموا إرثاً لأحد، وقد استغرب مسلمو عصرنا هدم تمثال لبوذا في أفغانستان، فقد رأى السلف الصالح تماثيل عديدة في الأرض التي فتحوها فلم يهدموا فيها تمثالاً حتى ولو كان له بعد ديني عند من يجله، بدليل بقاء الآثار التي حافظ عليها المسلمون، وهذا الحفاظ هو الذي جعل الشعوب تحترمهم، وأرضنا العربية ومتاحفنا ملأى بكنوز من تماثيل عبدتها شعوب قبل ظهور الأديان السماوية، وقد رآها أسلافنا فحافظوا عليها، وأثروا الحياة بفهمهم العميق للتعدد والاختلاف، وهذا سر كون بلادنا تقدم للعالم ثروتها الإنسانية في كونها بلاد الفسيفساء الثقافية، والعيش السمح المشترك. ودعاة التمترس بالطائفية اليوم يفتعلون في حياتنا حدثاً غريباً لم نألفه من قبل، وندرك جميعاً أنه مفتعل لأن التنوع ليس جديداً على ثقافتنا، ففي مصر افتعال لما يدور بين الإسلام والمسيحية، وفي سوريا افتعال لما يدور بين الناس من حديث خافت أو صريح عن خلافات طائفية، وهدف ذلك إغراق المجتمع بمشكلات تجعله قابلاً للتفتت. وإذا كان الإسلام قد بدا حاضراً بقوة في الحياة العامة اليوم، فالخطر أن يتوهم الآخرون أنه مخيف ومعيق لحركة التقدم، أو أن يقدمه المغالون على شكل غول يهدد حرية الآخرين. لقد كان الإسلام عبر التاريخ ضامناً للتنوع والتعددية، متجاوزاً كل الخلافات العقائدية عند الأمم التي تفاعل معها، عبر حرصه على حرية الاعتقاد، ومن يريد أن يحرف الإسلام عن جوهره الحيوي يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ولست أخاف على الإسلام من أعدائه فقد حاولوا تشويهه طويلاً ولم يفلحوا، ولكنني أخاف عليه من أبنائه إن هم أخطؤوا فهمه وتقديمه إلى العالم. نقلا عن جريدة الاتحاد