خارج الحجرة وقفت ولم أدخل معهم، صوت البكاء خافت لكنه يقشعر البدن، وجسدها الأوروبي الشهي مسجي علي الفراش الملاصق للباب، من مكاني خارج الباب الموارب لا يصل نظري إلي حيث استقرت رأسها، فلم أعرف إن كانوا غطوا وجهها أم لا، لا أري بين حشايا الفراش سوي انبعاج خفيف ملون ومنقوش بورود باهتة، وكنت مندهشاً أن رائحتها مازالت حية في البيت أو هكذا شعرت علي الأقل، لم أجيئ إلي هنا من قبل سوي مرتين أو ثلاث، ولم أدخل حجرتها إذ تصادف أني كنت آتي مع أصحاب غير ودودين في مناسبات رسمية، لكني كنت أعرفها منذ سنوات، وطالما التقينا في بيوت ونواد متناثرة في أنحاء المدينة، الشلة التي تضمنا تملأ بيتها الآن في صباح موتها، تعودنا جميعاً أن نتقارب ثم نتباعد علي يقين بالعودة، أمضينا سنوات شبابنا سوياً وصرنا نعتبر أنفسنا بشكل ما قدراً محتوماً لأنفسنا لا سبيل ولا طاقة لتبديله، ورغم تقاطعات صبيان وبنات الشلة فإنني وإياها تحديداً ظللنا متوازيين، قابلتها عندما كانت لا تجيد العربية بعد وعرفتها إلي أن أصبحت تفاصل بائعي الخضار، جاءت لتعد دراسة ما ولم ترجع لموطنها في شرق أوروبا مرة أخري، عملت بوظائف مرتجلة اعتماداً علي لغتها الأجنبية، ومن خلالها عرفت أن في أوروبا من هم «أغلب من الغلب»، وكان بيننا استلطاف خفيف فلم نخط تجاه بعضنا أكثر سوي في مرة واحدة، كدنا فيها أن نتخطي حدود الصداقة إلي كهف الجسد، كان يوماً شتائياً مثل يومنا هذا، لكنه كان مساء برد ورعد أعزل من المطر. ازدحم البيت ولكني لمحت كرسياً خالياً فجلست، الكرسي بارد وقريب من الحائط، علي يمينه لاحظت لأول مرة صورة لها بالحجم الصغير: واقفة بابتسامة شاحبة أمام نهر في مدينة ضبابية، وقد مالت برأسها قليلاً إلي اليمين، استغربت موضع الصورة، وندمت أنني لم أستجب ليلتها لنداء بشرتها المتضرجة. كنت نائماً في بيت صديق مشترك، واستيقظت في الظلمة علي صوت في الحمام، خبطت علي الباب فجاءني صوتها تستحم، كانت تمتلك مفاتيحنا جميعاً لكنها لم تزرني أبداً، غسلت وجهي في حوض المطبخ وارتديت ملابسي، كنت أنوي النزول من البيت لإجراء اتصال بحب عابر، وقبل أن أصل إلي الباب سمعت خطوات قدمها الحافية، سألتني إلي أين فقلت عندي موعد، بشرتها البيضاء متوردة، عيناها احتفظتا بكحل نصحها به شاب كانت تواعده في تلك الأيام، طلبت مني أن أنتظر قليلاً لننزل سوياً ولكني كنت متعجلاً وكنت أخجل قليلاً من السير إلي جوار عودها الفارع، وعندما اتجهت نحو الباب اندفعت ورائي وجذبتني ضاحكة متوسلة أن أنتظرها، وابتلت ذراعي من يدها الرطبة الدافئة. لابد أن مرضاً غامضاً يستوطن بلادها البعيدة كان مغروساً في جيناتها ثم استيقظ ليوجه ضربته فجأة، أو ربما فعلت فيها بلادنا فعلها، جهاز مناعتها احتمل طويلاً مياهنا وطعامنا ومواصلاتنا وتوتر شوارعنا ثم انهار دفعة واحدة، تعددت نوباتها في الآونة الأخيرة حتي هزمتها إحداها، في المرات الأولي كانت تهرع إلي المستشفي ثم بعد ذلك صارت تكتفي بكوكتيل من الحبوب، وتدريجياً تمادت في لامبالاتها حتي توقفت عن معرفة موقع اليوم من الأسبوع أو الأسبوع من الشهر، تراكمت الأتربة علي العبايات التي اشترتها في أيامها الأولي من شارع السكة الجديدة في الحسين، وتكسرت معظم التحف الفرعونية الصغيرة وبهتت لوحات الفلاحات والموالد وراقصي التنورة، تنهي عملها في مدرسة أجنبية في الخامسة عصراً ثم تتوجه إلي منزلها الذي تتشارك فيه مع ممثلة مسرحية من الهواة، غيابها عن أماكننا هو الذي ذكرني بها، وكنت أتخيلها جالسة تقلب قنوات التلفاز بعينين مطفأتين وجسد يائس، غير أني أعترف لم أصل بهواجسي إلي حد موتها المفجع. جذبتني من عند الباب بمزيج من المرح والعنف، وظننت أني شممت رائحة شبق يتخبط بين الجدران، عدت معها تاركاً ذراعي في كفها، نظرت إلي يديّ ثم صرخت ضاحكة مستهجنة أظافري الطويلة، أجلستني علي مقعد وإذا بها تمد يدها إلي حقيبتها الصغيرة، أخرجت مقص أظافر وأقسمت أن تقص أظافري بنفسها، أضحكتني الفكرة ثم أثارتني، جاءت إلي جواري وجلست علي يد المقعد العريض، أناملها الطويلة الانسيابية أمسكت أناملي العريضة الخشنة، قصت أظافري ببراعة واحداً وراء الآخر وأنا أختلس النظر إلي استراحة نهديها في قميص البيت، لم تتوقف عن الحديث ولم أتوقف عن الصمت وأنا أفكر في شكل انقضاضتي عليها، كدت أري ألوان الكيمياء في الفراغ الضيق بين جسديها، وإذا بهاتفي يدق فجأة فانتفض كلانا، وعلي الشاشة كان اسم فتاتي ينبض كأنه يحتج، مددت يدي وأطفأت الصوت والتفت لها ولكن اللحظة انتهت. رغم زحام ملابس الحداد لم يكن أحدنا يعرف الإجراءات المتبعة، نتصل بالبوليس؟ السفارة؟ ليس لها أهل هنا ونحن لا نصلح أهلاً لأحد، اقتربت ودخلت غرفتها واندهشت أنني لم أجد في وجهها الشحوب المعهود، خرجت خارج الشقة لألتقط أنفاسي، لم يناديني أحد فتسللت إلي باب البناية، تركت المزدحمين في حيرتهم، ولم أنتظر نزولها تماماً كما فعلت في ليلتنا الشتائية.