فجر اليوم التحقت بالوفد المصرى فى طهران الذى سبقنى إلى هناك قبل ثلاثة أيام وهو يشكل أكبر تجمع فنى يسافر إلى إيران بعد سنوات الجفاء التى خيمت على العلاقات بين البلدين وعلى كل المستويات، وكالعادة دفعت الثقافة وتحديدا السينما الثمن. أتذكر أن الراحل سعد الدين وهبة الذى تحل ذكراه هذه الأيام تعرض لحملة شعواء فى مؤسسة «أخبار اليوم» عندما قرر قبل 20 عاما إقامة بانوراما للسينما الإيرانية، اعتبروها نوعا من التحدى للسلطة السياسية بينما الرجل بحكم رئاسته لمهرجان القاهرة أراد أن يمنح المشاهد المصرى نفحة من السينما التى بهرت العالم.
من المهم أن تذوب حالة الجفاء التى صنعها رجال السياسة لنقترب أكثر من هذه السينما، التى أتابعها بشغف فى كل المهرجانات التى أذهب إليها، وأتأكد فى كل مرة أن القيمة الحقيقية فى الفكر الذى يسكن العقل والإحساس الذى تنضح به المشاعر، بينما يحاول البعض من قصار النظر أن يحيلوها فقط إلى الحجاب.
كم من مرة عندما يسألون فنانة عن الحجاب وتعارُضه مع الفن تقول انظروا للسينما الإيرانية بطلاتها محجبات وتحصد الجوائز العالمية.. هناك فرق بين سينما تخضع لنظام يحكمه قانون صارم يعاقب المرأة لو غادرت بيتها إلى الشارع دون ارتداء الحجاب، والمجتمع المصرى 70% من نسائه محجبات وتنتشر فى الشوارع مثل هذه الشعارات المعلقة على الجدران.. الحجاب فريضة كالصلاة.. يا مؤمنة تحجَّبى قبل أن تحاسَبى.. السينما المصرية ينبغى أن تقدم ضمن شرائحها المرأة المحجبة، لأنها انعكاس للشارع وليس بالطبع كل الشارع، إلا أن هذا لا يعنى أننا سوف نقدم أفلاما عظيمة لو ارتدت كل نجماتنا الحجاب.
صارت السينما الإيرانية هى الفاكهة التى تحمل عبيرا خاصا، تلك السينما قدمت لنا مخرجين موهوبين أمثال عباس كيروستامى، محسن مخلباف، أصغر فرهادى، سميرة مخلباف، مجيدى المجيد وغيرهم.. هؤلاء لا يصنعون السينما على مقاس الحجاب لكنهم يراهنون على فكرة مطلقة تفرض نفسها على مفردات الشريط السينمائى، لا تشعر بأنك تتعامل مع امرأة تضع الحجاب، نعم لا يوجد مشاهد جنس ولا عُرى ولا عنف، ولهذا يزداد حضور الأطفال فى أغلب الأفلام لنرى السيناريو من خلال عيونهم وتصبح دهشتنا هى دهشتهم.. إنك مثلا فى فيلم «لون الله» لمجيد المجيدى الذى يصور الآن فيلما عن طفولة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. «لون الله» يقول إن الله فى كل الأديان ولا لون له، يعنى أنه لا يحتكره دين محدد!
مثلا عباس كروستامى فى فيلمه «طعم الكرز» يقدم أنشودة لعشق الحياة لرجل يبدأ رحلته لاختيار مكان للانتحار، فيكتشف فى نهاية المطاف أن الحياة تستحق أن تعاش لأن بها طعم الكرز.. «انفصال» الحائز هذا العام على أوسكار أفضل فيلم أجنبى وقبل ذلك على الدب الذهبى فى برلين، يدخل إلى عمق النفس البشرية بسؤال يطل بين ثنايا الفيلم عن خطيئة الكذب. ألم نلجأ يوما جميعا إليه.. الشريط السينمائى يطرح سؤالا على الشاشة فتجده يتردد داخلك.
فى السينما الإيرانية حبكة تتابعها، ولكن الأهم هو ما وراء ذلك البعد المباشر.. السينمائى يُمسك بالفكرة التى تعتمل فى نفوس الناس، مثلا عباس كروستامىقدم مؤخرا فيلمين خارج إطار السينما الإيرانية الأول «نسخة مطابقة» إنتاج مشترك فرنسى إيطالى، والثانى «مثل من يحب» إنتاج فرنسى يابانى.. البطلات لا يرتدين الحجاب بالطبع، لأن الأول أحداثه تجرى فى إحدى المدن الإيطالية والثانى فى طوكيو، ورغم ذلك المذاق القائم على الفكر الذى يحيل المشاهد إلى فاعل أصلى فى الفيلم هو الهدف المنشود.
السينما الإيرانية حصدت الجوائز العالمية بالأفكار داخل الرؤوس وليس بالحجاب الذى يعلو الرؤوس. ورغم ذلك فلا شك أن أى مبدع سينمائى لا يمكن أن يغفل أن تلك السينما تواجه فى كثير من الأحيان بتعنت سياسى. يكفى أن نذكر أن اثنين من كبار مخرجيها وهما جعفر بناهى ومحمد رسولوف وجه لهما أقسى عقاب وهو المنع من الإبداع 20 عاما، كما أن شبح السجن يخيم عليهما. أتصور أن المصريين من المبدعين الموجودين الآن فى إيران لا يمكن أن يعتبروه شأنا إيرانيا داخليا. أرى أن علينا أن نطالب على الأقل بلقاء خاص مع المخرجين فهما ممنوعان من الإخراج، ولكنهما ليسا ممنوعين من الكلام!!