المخرج الاستثنائى فى العالم كله له مذاق وعالم خاص.. عدد قليل جدا من المخرجين استطاعوا تحقيق تلك الحالة النادرة، وبينهم المخرج الإيرانى عباس كيروستامى رغم كل محاذير السينما الإيرانية، إلا أنك من الممكن أن ترى هذه التابوهات وقد صارت أشبه بالملامح المميزة للسينما وللمخرج. لا تستطيع أن تفصل المبدع فى إيران عن موقفه السياسى تجاه نظام الحكم، حيث يسيطر على الجميع حسابات متعلقة بالموقف الرسمى.. النظام لديه موقف مباشر ومعلن ضد كل من المخرجين جعفر بناهى ومحمد رسولوف، فهما ممنوعان من السفر خارج البلاد، وهناك مثلا من فضّل الهجرة إلى الخارج مثل المخرج محسن مخلباف وعائلته السينمائية، وهم يقيمون فى فرنسا ويمارسون المهنة لأنهم يؤيدون تيار الإصلاح.
عباس كيروستامى حالة استثنائية، لا يزال يقطن فى طهران، ومن حقه أن يسافر فى أى وقت يحلو له، ولكنه ليس ممن يتم الترحيب بهم داخل المؤسسات الرسمية فى إيران. تبدو العلاقة بين المخرج والنظام أقرب إلى حالة اللا سلم واللا حرب.
كيروستامى لا يفعل شيئا يتيح للنظام أن يضعه تحت طائلة القانون وفى نفس الوقت لديه رأيه المعلن ضد نظام الحكم.. إنه يبدو كمن يسير على صفيح ساخن فهو كثيرا ما ينتقد الأحكام الصادرة بحق زميليه بناهى ورسولوف، ولكنه مثلا لا يتحدى الأجهزة الأمنية ويصور أعمالا فنية يقفز فيها على القانون، فهو يعلم أنه إذا أراد أن يقدم سينما إيرانية عليه أن يلتزم بما تريده الدولة، وهكذا ابتعد فى السنوات الأخيرة عن السينما الإيرانية المحلية.
الفنان فى ظل الميديا الآن يتجاوز حدود بلده كيروستامى صار على الخريطة أحد الأسماء التى تُقدَّم من أجلها مشروعات عالمية، وهكذا انتقل قبل عامين من فيلم إيطالى فرنسى مشترك، وهو نسخة مصدقة ليقدم هذه الدورة فى «كان» فيلما يابانيا فرنسيا مشتركا «مثل من يحب».
تستطيع أن ترى فى الفيلمين ملامح كيروستامى الفنية، فهو احتفظ بكل القيود التى تفرضها السينما الإيرانية الرافضة للجنس والعنف، كل هذا تجده داخل هذا الفيلم وقبله أيضا نسخة مصدقة ما عدا شيئا واحدا لا يمكن تحقيقه، هو أن البطلات يضعن حجابا على رؤوسهن. نحن أمام علاقة تجمع بين أستاذ علم اجتماع وفتاة ليل، الرجل طاعن فى السن، وهى لم تبلغ العشرين بعد.. المشهد الأول فى ملهى ليلى ونرى صراعا بين الفتاة والرجل الذى يتولى تأجير الفتيات ويقدم المخرج للجمهور معلومات عن الفتاة نستمع إليها فى التاكسى وهى فى طريقها إلى الرجل، وذلك عن طريق جهاز «الأنسر ماشين»، ومن خلالها تعرف بالضبط من هى، وعندما تصل إلى المكان المطلوب نكتشف أن الرجل يعيش الوحدة، ويبدو فقط أن ما يحركه تجاه اصطحاب فتاة الليل هو رغبته فى كسر حاجز الروتين اليومى.
سبق لكيروستامى أن قدم فيلما إيرانيا شاهدته أيضا فى «كان» قبل أكثر من عشر سنوات عنوانه «من واحد إلى عشرة»، كان فيه حريصا على أن يقدم نماذج للمجتمع الإيرانى، وتجرى أحداث الفيلم فى تاكسى يلتقى فيه السائق عشرة زبائن كانت العاهرة واحدة منهم، ولكن برؤية وموقف مختلفَين.
يبدو ولع كيروستامى فى تقديم معلومات فى هذا الفيلم من خلال «الأنسر ماشين»، حيث نستمع هذه المرة إلى عديد منها لترسم لنا الملامح الخاصة بأستاذ الجامعة، وتنتهى الأحداث ونحن نتابع صراخ صوت غاضب لخطيب هذه الفتاة وهو يلقى حجرا على زجاج منزل الأستاذ الجامعى لتتناثر بقايا الزجاج.
المخرج لا يقدم علاقات صريحة بين الشخصيات ولكنه يترك المشاهد لكى يضيف تفاصيل وظلالا حول الصورة ليصبح كل شىء داخل هذا الفيلم يجمع بين ما يتيحه المخرج من معلومات للشخصيات وما يضيفه المشاهد، وكعادة كيروستامى يترك دائما فراغات للمتلقى، وعليه هو أن يكملها.
الفيلم لا يحمل كثيرا من اللمحات والومضات والسحر السينمائى، ولكنه به أحاسيس السينما كما يقدمها كيروستامى يكتب سطرا ويترك لك سطرا تكتبه أنت.
الفيلم بالتأكيد كان يتيح لقاء أو محاولة للقاء بين العجوز والفتاة، ولكن الرؤية التى قدمها كيروستامى لم تسمح بأكثر من ذلك، كأن ملامحه الإبداعية صارت فى خيوطها العريضة تحمل قيود السينما الإيرانية.. «مثل من يحب» لا يحتلّ مكانة خاصة بين أفلام كيروستامى، ولكنه يحتفظ بكل تفاصيل عالمه السينمائى الخاص!