هل هناك حرب سينمائية ضد النظام الإيرانى؟! فى السنوات الأخيرة بدأت المهرجانات الكبرى تُقدم فى فاعلياتها أفلاما ليست بالضرورة معارضة لإيران، إلا أنها أيضا تفرد مساحات للأفلام التى يقدمها مخرجون يقفون على الجانب الآخر من النظام مثل عباس كيروستامى، الذى عرض له فى العام قبل الماضى فى مهرجان «كان» فيلمه الرومانسى «نسخة مُصدقة»، وفى هذه الدورة يعرض فيلمه «مثل شخص واقع الحب» داخل المسابقة الرسمية، والفيلمان من الناحية الشرعية لا يمكن اعتبارهما إيرانيين لأن الإنتاج غير إيرانى.
فى الدورة الماضية للمهرجان عرض فيلمى «وداعا» لمحمد رسولوف، و«هذا ليس فيلما» لجعفر بناهى، والمخرجان ممنوع عليهما ليس فقط مغادرة البلاد، بل هما ممنوعان من ممارسة المهنة ويطاردهما شبح السجن، وسبق للنجمة الفرنسية جولييت بينوش بطلة فيلم «نسخة مصدقة» وهى تقف على خشبة المسرح فى قاعة «لوميير» لاستلام جائزتها (أحسن ممثلة) قبل عامين أن أعلنت تضامنها مع المخرجين فى إيران.. كما أن بناهى تم اختياره وقتها فى عضوية لجنة التحكيم فى المهرجان، وهم يعلمون أن السلطات الإيرانية لن تسمح له بمغادرة البلاد إلا أن الهدف كان فضح التعسف الإيرانى ضد المبدعين!
سبق قبل بضع دورات أن عُرض فى «كان» أيضا فيلم رسوم متحركة «بلاد فارس»، شاركت فى إخراجه الإيرانية المقيمة فى فرنسا مورجان سترابى، انتقدت فيه الحكم الدينى وحصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم.
ليس فقط مهرجان «كان» الذى يقدم هذه الأفلام ويفرد مساحات لهؤلاء المعارضين، بل مثلا مهرجان «فينسيا» عرضَ قبل ثلاثة أعوام «الأيام الخضراء» ل«هانا مخلباف»، ابنة المخرج محسن مخلباف، وهو معارض قوى للنظام.. كما أن المخرجة الإيرانية شيرين نشأت عرضت فيلمها «نساء بلا رجال» وحصلت على جائزة «الأسد الفضى» للجنة التحكيم الخاصة كأحسن إخراج، وواكب ذلك أن عرض الفيلم الإيرانى «لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية» أيضا فى «كان»، وهو ينتقد النظام عندما يتصدى لحرية الفنانين!
الأفلام الإيرانية التى تمثل الوجه المعارض للنظام صارت عنوانا رئيسيا فى المهرجانات الكبرى، رغم أن الأفلام الإيرانية التى ترضى عنها الدولة وتبيح عرضها جماهيريا موجودة أيضا، وتحرص الشركات السينمائية الإيرانية التى تمثل الدولة على أن تنشئ أكثر من جناح لتسويق الفيلم الإيرانى فى المهرجانات، إلا أن صوت السينمائى المعارض صار هو الأعلى.. مثلا فيلم «لا أحد يعرف شيئا عن القطط الفارسية» تم تهريب الأشرطة خارج إيران والمونتاج النهائى أجرى فى معامل فرنسية.. أنا لا أتصور أن المهرجانات تتحمس لعرض فيلم لمجرد أنه سياسى يتوافق معها، ولكن انطوت هذه الأفلام على لغة سينمائية أهّلتها لتلك المكانة.. فى الماضى القريب شاهدنا المهرجانات السينمائية كثيرا تحتفى بالأفلام الإيرانية التى تُقدمها إيران، مثلا عباس كيروستامى حصل على سعفة مهرجان «كان» عام 1997 عن فيلمه «طعم الكرز»، ولم يكن وقتها معارضا للنظام، وسميرة مخلباف 2001 أخذت جائزة لجنة التحكيم فى «كان» عن فيلم «التفاحة»، ولم تكن بوادر المعارضة الإيرانية السينمائية قد ظهرت بعد.
بين الحين والآخر يعلو صوت مطالبا الدولة رسميا فى إيران بمقاطعة تلك المهرجانات، إلا أن على أرض الواقع توجد الشركات التى ترتبط بالدولة فى أسواق تلك المهرجانات، بل إن الأجنحة الإيرانية هى الأكثر عددا بالقياس حتى للدول الأوروبية.
الزمن تغير ولا أتصور أن إيران جادة فى تهديدها بالمقاطعة، لأنها لو طبقت ذلك سوف تؤدى لا محالة إلى رسوخ الانطباع الذى تسعى حثيثا إلى نفيه.
لا أعتبر ما نشاهده فى المهرجانات حربا موجهة ضدها، ولكنه يمثل أسلوبا فنيا فى التعبير عن المؤازرة لمبدعين يمارَس ضدهم القمع، ولهذا فإن إيران ترد على تلك القذائف السينمائية الناعمة بأفلام أخرى لعدد من المخرجين لا يزالون تحت مظلة النظام.
الغريب فى الأمر أن الأفلام الاجتماعية مثل «انفصال» الحاصل على جائزة مسابقة «الأوسكار» هذا العام لأفضل فيلم أجنبى إخراج أصغر فرهادى، قوبل أيضا بغضب من النظام الرسمى الإيرانى، واعتبره بعض القريبين من النظام فيلما معارضا وتشككوا فى أحقيته بالأوسكار!
السياسة تلعب دورا فى الاختيارات الفنية للمهرجانات، هذه بالتأكيد حقيقة ولكن إذا لم يدعم العمل الفنى رؤية إبداعية فلن تنقذه السياسة!