نعم إنها مرحلة العك، ولا شيء سواه كلما نظرت وجدته عن يميني وعن شمالي ومن أمامي ومن خلفي ولا أدري أين المفر؟ كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الميدان ممتلئ عن آخره بالحشود المتموجة ولا تنتابني تلك القشعريرة والحماسة التي كانت تدب في أوصالي عند رؤية مثل ذلك المشهد. إنها نفس الأعداد الضخمة التي تذكرك بأيام ليتها تعود، أو ربما ليتها لم تبدأ، إنها الأيام الأولى من الثورة الجميلة، كما أنه نفس الميدان الذي احتضن الجميع ولم يفرق بين أحد ممن قصدوه ولم يميز بينهم ولم يصنفهم، ولكن مهلا أين العلم المصري؟ أين أعلام مصر التي كانت ترفرف من أقصى الميدان إلى أقصاه أين العلم الذي كان يمتزج بحامليه ويذوب فيهم أين العلم الذي كان مرسوما على الأوجه ومحفورا في القلوب، لقد استبدلوه بأعلام سوداء وخضراء وغاب العلم المصري هذه المرة عن المشهد.
غاب العلم المصري وغابت معه اللافتات التي كانت تحمل في كل كلمة سطرت عليها فلسفة عميقة وربما كوميديا سوداء أو مطلب إنساني نبيل أو ربما صورة لشهيد بذل روحه وهو لا يزال في مقتبل العمر. إذا أمعنت النظر ستجد أن المشهد غلبت عليه لافتات تحمل عبارات مثل "الشعب يريد تطبيق شرع الله" ونريد عزل شيخ الأزهر" و"نريد عزل مفتي الجمهورية" وغيرها من لافتات ضد الأحزاب الليبرالية الأخرى. "أليست الشريعة مطلب إنساني نبيل أليست الشريعة هي الأدعى للتحمس لها أيتها ال......" لا يا عزيزي إنها أنبل ما في الوجود إنها العدل الذي وضعه الله حتى نحيا من خلاله فيستقيم الكون وحتى يسود الخير والسلام فلا تجد مظلوم يبحث دون جدوى عمن يرد مظلمته ولا ظالم يجور ويفسد دون حساب‘ الشريعة هي العدل في جوهرها، وليس هناك ما بح الصوت من أجله من بداية الثورة أكثر من العدل. وهو المطلب الذي ننتظر أن يتحقق في ظل الحزب الحاكم الجديد الذي صنف نفسه حزبا إسلاميا- رغم رفضي لتلك التصنيفات لأننا جميعا مسلمون – وإذا كانت التيارات الإسلامية قد حشدت لمليونية ناجحة لتذكر الحزب الإسلامي الحاكم بأن العدل أساس الملك فلا بأس في ذلك، فكلنا في حاجة إلى العدل.
أما إذا كانت المليونية ترمي إلى أن حياتنا نحن الشعب المصري خالية من شرع الله أو ترمي إلى أن النقاب والجلابيب البيضاء القصيرة واللحى الغزيرة، مع احترامي الكامل لأصحابهم، هما الزى والمظهر الرسمي للشريعة فلابد لنا من إعادة النظر في الأمر. إننا نتزوج وفقا للشريعة ونطلق وفقا للشريعة ونولد وندفن وفقا للشريعة ونتصدق ونزكي وفقا للشريعة ونتوارث وفقا للشريعة، الشريعة في أغلب مظاهر حياتنا. حددت هنا "اغلب" لن هناك من سيصرخ قائلا "وماذا عن متاجر الخمور وماذا عن المعاملات الربوية وماذا عن تطبيق الحدود" أما عن محلات الخمور فإذا رأت الدولة إن وجودها مناف للشريعة فلتغلقها ولكن ليس قبل أن توفر مصدر رزق بديل لأصحابها فإني لن أحول أصحابها من تجار إلى لصوص هذا وقد أفتى الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل فيم قبل أن السائح الذي يرغب في إحضار الخمر معه ليحضرها أما نحن فلن نبيع! أما عن معاملات البنوك التي يراها البعض ربوية فقد ظلت محل خلاف بين المشايخ فهناك من أفتى بإجازتها وهناك من رفضها والاختلاف في ذاته رحمة بنا لقد اختلف الأئمة الأربعة أنفسهم في أحكامهم وفتواهم، هذا علاوة على أن الظروف قد تغير بعض الأحكام كما هو الحال مع قرض صندوق النقد الدولي الذي أقر الرئيس مرسي وأفتى معه بعض المشايخ انه ليس ربا!
أما بالنسبة للحدود من جرائم كالسرقة والكذب والزنا والقذف فيجب تطبيقها لا شك، ولكن هل يمكن تطبيق حد السرقة في ظل ما تمر به البلاد من ظروف اليوم؟ فإذا كان الفاروق عمر بن الخطاب قد عطل العمل بحد السرقة في عام المجاعة، أفلا تعتبر مصر الآن في مجاعة؟ ولا أدعو هنا إلى ترك السارق دون عقاب ولكن هل من العدل قطع يده الآن، وإذا كنتم مصرين على مسالة قطع اليد فالأولى أن تقطع يد الكبار اللذين لم يحاسبوا حتى الآن على ما نهبوه رغم أنهم لم يكونوا في حاجة أصلا إلى السرقة، فلماذا لم تقوموا بقطع يد رموز النظام السابق؟ والأهم من ذلك لماذا لم "بعض" يقيم الدعاة إلى الشريعة ممن اقترفوا أخطاء سلوكية وأخلاقية بتطبيق الحدود على أنفسهم فهم الأولى بها؟ ولا داعي لإعادة ذكر الأسماء فهي معروفة. الشريعة هي العدل وإذا دخلت الكوسة على تطبيقها هي الأخرى ستكون النتائج عكسية وستتحول إلى مجرد عبارة جوفاء تتردد دون معنى.
إننا شعب يعيش بالشريعة وهو الأمر الذي أقره شيخنا الفاضل الشيخ الشعراوي رحمه الله حين قال "لو نظرنا إلى تطبيق الشريعة في مصر لوجدناها مطبقة إلا في الحدود" إذا كانت الحدود هي ما ينقصكم من الشريعة طبقوها ولكني أرى أن أهم ما ينقصنا من الشريعة هو العدل‘ العدل الذي لن يترك فقيرا في مصر يأكل من صناديق القمامة كما هو الحال الآن، العدل الذي سيقتص للشهداء الذين رأوا أن الخروج على الحاكم الظالم من الشريعة حين لم تروا ذلك أنتم وكنتم أول من استفاد منه، العدل الذي سيحقق حد أدنى وأقصى "للدخول" وليس الأجور، لن يترك الشباب دون عمل في حين أن المستشارين برواتبهم الخاصة لا يزالون في مناصبهم وقد تجاوزت أعمارهم الستين، حين يتحقق العدل في كل ذلك وفي غيره طبقوا الحدود كما شئتم وعلينا أن نعلم أولا وأخير أن "المثل والقدوة الحسنة خير دليل".
إذا كانت مصر بلد الأزهر الشريف لا تطبق الشريعة، وإذا كان هناك من يهدد بهدم الأهرامات وأبو الهول لأنها أصنام باسم الشريعة، وإذا كان من يطالب بعدم تعليم المرأة باسم الشريعة أو بتزويج الفتاة في التاسعة باسم الشريعة فلابد وان نكون إذن دون شك قد رجعنا إلى زمن نحن غرابه عك!