«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الدستور» تخترق المنطقة المحظورة وتقدم الرحلة الحقيقية لتهريب الأفارقة عبر الحدود
نشر في الدستور الأصلي يوم 12 - 03 - 2010

«الزُلطان» هو الاسم الكودي للمتسللين الأفارقة عند المهربين وهى كلمة سيناوية تعني الماعز السوداء الصغيرة
الرحلة الحقيقية لتهريب الأفارقة عبر الحدود
عشرات الأفارقة من جنسيات مختلفة يتساقطون يوميًا، وبشكل غير مسبوق، علي الحدود أثناء محاولتهم التسلل إلي إسرائيل، بعد أن أصبح تهريب الأفارقة هو مصدر الرزق الجديد لأبناء الشريط الحدودي من بدو سيناء، في الفترة التي أعقبت رواج تجارة الرقيق الأبيض، عبر تهريب الروسيات الوافدات من دول الاتحاد السوفييتي السابق إلي إسرائيل عن طريق مصر، للعمل في شبكات الدعارة الإسرائيلية، وهو النشاط الذي استمر خلال تسعينيات القرن الماضي، وحتي تفجيرات طابا في 2004، قبل أن يتوقف مفسحًا المجال لعمليات تهريب الأفارقة، التي بدأت تأخذ منحنيً جديدًا في الفترة الأخيرة، مع توسع شريحة القائمين علي عمليات التهريب، لتضم مجموعات مختلفة من أبناء الشريط الحدودي، من غير محترفي التهريب الذين ارتضوا بالمخاطرة وأعينهم علي دولارات الأفارقة التي يبدو أنهم وجدوا فيها التعويض المناسب عن أخطار رحلة التسلل عبر الحدود.
لا فارق بين تهريب «الرقيق الأبيض» و«الأفارقة»؛ إلا في لون البشرة، ودافع التسلل، أما الوسيط في كلتا الحالتين فواحد، وطرق ومسالك التهريب واحدة أيضًا.. الاختلاف الأكبر في تصاعد الأحداث بشكل مفاجئ خلال السنوات الأخيرة التي شهدت تصاعد عمليات تهريب البشر بشكل غير مسبوق، بعد أن لجأ أبناء الشريط الحدودي من البدو إلي عمليات تهريب الأفارقة كمصدر للرزق، وبعد دخول مجموعات جديدة من أبناء القبائل في «لعبة» التهريب، ليتنوع المهربون بين شباب عاديين، من الخبراء بمسالك ودروب الصحراء والحدود، ومحترفين من قاطني وسط سيناء، وصولا إلي عدد كبير من محترفي تهريب المخدرات والسلاح، الذين يسهلون تهريب المتسللين كنوع من العمل الإضافي الذي لن يكلفهم شيئًا، علي العكس يبدو تهريب الأفارقة أقل خطرا من نشاطهم الرئيسي - تهريب المخدرات والسلاح - خاصة وأن معظمهم صادر بحقهم أحكامًا غيابية بسنوات تفوق أعمارهم - الافتراضية - بعدة أضعاف.
البعض يُرجع السبب وراء تعدد حالات إطلاق الرصاص علي المتسللين خلال الأشهر الأخيرة إلي التشدد الأمني المبالغ فيه، وعمد رجال الشرطة إلي فتح النيران علي أي مشتبه لأول وهلة، لكن لا يمكننا أن نغفل أن التوسع في عمليات التهريب بأعداد كبيرة، واتجاه شرائح جديدة من أبناء القبائل البدوية المرابطة علي الحدود لذلك النشاط الجديد، تسببا في تزايد أعداد المتسللين، وبالتالي تزايد أعداد قتلاهم علي الشريط الحدودي.
«اقتصاد سيناء أصبح كله مرتبطًا بالتهريب عبر الحدود».. العبارة السابقة قالها خليل جبر، الباحث المستقل في شئون القبائل، وأحد أبناء مدينة الشيخ زويد الحدودية. جبر أكد أن اتجاه أبناء سيناء للتهريب هو رد فعل طبيعي للتجاهل الحكومي المبالغ فيه تجاه تنمية سيناء، وهو ما ينعكس سلبًا علي أبنائها وبخاصة هؤلاء الذين يقطنون بمنطقة الشريط الحدودي. وأضاف: «من غير المعقول أن تتجاهل الحكومة أبناء سيناء علي مستوي فرص العمل والخدمات، وتطالبهم في النهاية بانتظار الموت جوعا، دون رد فعل».
بعيدا عن ظروف أبناء المنطقة الحدودية بسيناء، نجد أن معظم المتسللين الأفارقة عبر الحدود مع إسرائيل ينتمون إلي عدة دول أفريقية أبرزها السودان، وإريتريا وإثيوبيا ونيجيريا والصومال، وتختلف ظروف هؤلاء، لكن مصائرهم تتشابه فتنتهي رحلة التسلل بأحد احتمالين، أكثرهما تفاؤلا العبور بسلام إلي الجانب الآخر حيث أحلام الثراء والحياة الكريمة، والآخر يبدأ برصاصات الشرطة علي الحدود، وينتهي بالمتسلل الأفريقي في مستشفي العريش أو رفح، مصابًا أو قتيلاً.
العجيب أن نسبة ليست بالهينة بين المتسللين الأفارقة لاجئون بمصر، دخلوها بطرق مختلفة هاربين من أخطار تهدد حياتهم بأوطانهم، خاصة النازحين من دارفور جنوبي السودان، والإريتريين الهاربين من التجنيد الإجباري، أو الحروب الأهلية بالصومال، ومعظم هؤلاء يقعون تحت مظلة المفوضية السامية لشئون اللاجئين بمصر، إما لاجئون فعليون يحملون بطاقة اللجوء «الخضراء»، أو علي قائمة الانتظار يحملون البطاقة «الصفراء»، التي تشير إلي أن المفوضية مازالت تبحث مدي انطباق شروط اللجوء عليهم لتجمعهم تحت مظلتها مع أكثر من 43 ألف شخص آخرين، بين لاجئ وطالب للجوء.
الأكثر عجبا أن نسبة كبيرة بين هؤلاء من حاملي البطاقة الخضراء، التي تعني أنهم تحت مظلة مفوضية اللاجئين بالفعل، وهو ما يعني بالتبعية سلسلة من الامتيازات لا يحصل عليها بني جلدتهم ممن هم خارج مظلة المفوضية، أو الذين علي قائمة انتظارها، لكن هؤلاء لا يجدون فرصة عمل تؤمن لهم مصدر دخل دائم يمكنهم من حياة كريمة علي أرض جديدة، وحتي المساعدات المالية التي توفرها المفوضية لنسبة من اللاجئين بسيطة جدا، ولا تمكنهم من الاستمرار في دفع إيجار مسكن بسيط بأحد أحياء القاهرة الفقيرة، فضلا عن استحالة وجود فرص عمل لمثل هؤلاء في دولة تتراوح أرقام المتعطلين عن العمل فيها بين 4 و5 ملايين شخص، بحسب إحصائيات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري.
ظروف أبناء سيناء - وبخاصة بدو الشريط الحدودي - الاقتصادية المتردية، تتحد مع ظروف اللاجئين والمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين، لتخلق بينهم تحالفا بدأ متكافئا، قائم علي المصلحة المتبادلة، ووصل إلي الاستغلال من الفئة الأولي للثانية، باعتبار أفرادها حفنة من الدولارات التي تمشي علي الأرض، الذي أضاف أن البدوي الذي يعمل علي تهريب الأفارقة عبر الحدود ينظر إلا إلي المبلغ المتفق عليه، دون أن يشغل باله بأمن وسلامة المتسلل، فيتركه عند أقرب ثغرة تسمح له بالعبور إلي الجانب الآخر، ويعود أدراجه، ليبقي مصير المتسلل وقتها معلق بقدرته علي المرور من تلك الثغرة قبل أن ينتبه له جنود مراقبة الحدود، فإن استطاع المرور عبر الحدود المصرية قبل ذلك نجا بحياته، وإلا كان الموت مصيره.
لم يكن من السهل أبدًا الاتصال بمهربي الأفارقة وكسب ثقتهم لمعرفة تفاصيل رحلة الموت، لكن وساطة بعض أبناء القبائل بالمنطقة الحدودية الممتدة بين مدينتي رفح والشيخ زويد، وصلة الدم التي تربط بين بعضهم وبين المهربين أمّنت لنا اتصالا - متوترًا - ببعضهم، لننتقل إلي إحدي المناطق الحدودية، التابعة لقريتي «شبانة» و«المهدية» حيث يتم استقبال المتسللين الأفارقة في منازل بدوية من تلك المتناثرة بطول الشريط الحدودي، أو في «عشش» الخوص التي تعد إحدي أبرز علامات المنطقة. وهناك عرفنا أن المتسللين الأفارقة يصلون إلي تلك العشش بعد رحلة طويلة عبر دروب صحراوية وعرة وغير ممهدة، قادمين من البر الغربي لقناة السويس، من القاهرة، أو من صحراء محافظة البحر الأحمر، بعد تسللهم حدوديا عبر «حلايب وشلاتين»، وفي النهاية - وبعد رحلة طويلة - يستقر الأفارقة في تلك المخابئ المؤقتة، حتي يتسني نقلهم إلي الثغرة الحدودية المقرر تهريبهم عبرها.
«الزُلطان» هو الاسم الدارج للمتسللين الأفارقة عند القائمين علي عمليات التهريب، ومفرده «زليط» أي: الماعز الأسود الصغير، وهو وصف أقرب منه تسمية، حيث يري المهربون أن الأفارقة يكونون أقرب لصغار الماعز السوداء المرتعدة، وهم ينتظرون مصيرهم بمخابئ ما قبل التسلل، أو وهم ينتظرون في الصندوق الخلفي لسيارات الدفع الرباعي التي يتم نقلهم بها عبر المدقات الصحراوية الوعرة إلي أقرب مسافة آمنة من النقطة الحدودية التي يتم تهريبهم عبرها.
ويتحدث المهربون عن وجود بعض «الزلطان» بحوزتهم، في انتظار «البيع»، دون أن يدرك أحد أنهم يقصدون المتسللين المنتظرين لفرصة الهرب، عبر المنطقة الممتدة بطول 70 كيلو مترًا بين «الكونتلا» و«وادي العمرو»، والتي تمتاز بوعورة تضاريسها، وطبيعتها الجبلية التي تسهل التسلل عبر السلك الحدودي فيها، وتختلف تسعيرة تهريب الأفارقة باختلاف جنسياتهم، فتكلفة تهريب السوداني من سيناء إلي إسرائيل بين 700 و1000 دولار، والإريتري 1500، ترتفع مع النيجيري إلي 2000 دولار، ومعدل التسلل الشهري الآن بين 100 إلي 200 متسلل شهريًا، بعد أن كان قد وصل خلال الأشهر الماضية إلي أكثر من ألفي متسلل في الشهر.
كان لابد لنا من دليل خبير بدروب المنطقة ليقودنا عبر الأراضي الصحراوية الممتدة، دون أن يستفز عصابات التهريب التي تتقاطع مصالحها، والتي تفرض سيطرتها علي المنطقة بالكامل، وكان لابد أن يرافقنا أحد أبناء القبائل الشهيرة بالمنطقة، حتي يؤمن طريقنا، ويمنع عنا أذي المهربين حال اكتشاف أمرنا - باعتبارنا ضيوفه - خشية الوقوع تحت طائلة القضاء العرفي الذي يحكم الجميع، وبالفعل بدأت رحلتنا بالقرب من قرية «شبانة"، علي الأقدام، لأكثر من ساعتين، ولمسافة تخطت العشرة كيلو مترات، وبمجرد وصولنا لحدود القرية الشرقية، انقطعت علاقتنا تمامًا بشبكات المحمول المصرية، لتفاجئنا الشبكة الإسرائيلية «orang » علي شاشات هواتفنا المحمولة، معلنة انتهاء نطاق الشبكات المصرية، وتأكد لنا ذلك بظهور الأرقام المصرية التي حاولت الاتصال علينا وقتها مسبوقة بالكود الدولي «002».
عرفنا بعد ذلك أن مهربي الأفارقة يستخدمون خطوط «orang » الإسرائيلية التي يصعب تعقبها من الجانب المصري، أو هواتف «الثريا» المتصلة بالأقمار الصناعية - حسب درجة احترافهم - لتنظيم الاتصالات فيما بينهم، بعد تعديلها بحيث تعمل دون «شاشة مضيئة» لأن معظم عمليات التسلل تتم في الليل، ويمكن ملاحظة شاشة المحمول المضيئة من عدة كيلو مترات، وأكد لي مرافقي أن المهربين عمدوا إلي ذلك الإجراء «تعطيل شاشات التليفونات المحمولة» بعدما أطلق أحد جنود الشرطة رصاصاته لتصيب رأس أحد المهربين مباشرة، بعد أن حدد موقعه عبر الضوء المنبعث من شاشة هاتفه المحمول.
كما أنهم يستخدمون علامات وأوصاف خاصة بهم تحدد منطقة التسلل دون أن يكتشفها أي غريب، مثل كلمة «اللفلوف» التي تشير إلي السلك الحدودي الشائك «الوصف من شكل السلك الملتف حول نفسه». وعلامة ال «010» والتي تعني أن المرور سيكون بالقرب من إحدي نقاط المراقبة الحدودية القريبة من برج اتصالات لاسلكية شهير علي الشريط الحدودي، بالإضافة لعبارات أخري عديدة، لا يعرف معناها أو تفسيرها إلا أصحابها.
نستمر في تحركنا باتجاه السلك الحدودي، في طرق غير ممهدة، حتي نصل إلي إحدي مناطق التهريب النشطة، وتقطع علينا الطريق - عرضيًا - بعض سيارات الدفع الرباعي، التي لا تحمل لوحات معدنية، والتي تغطي مؤخرتها أغطية سميكة مثبتة بالحبال، ويؤكد مرافقي بأن هذه السيارات خاصة بالمهربين، وأن سائقيها من الهاربين من أحكام غيابية بالسجن، الذين يعيشون حياتهم في تلك الطرق الصحراوية الوعرة، ويمارسون في نفس الوقت أنشطة عديدة مرتبط معظمها بالتهريب.
وفي طريقنا للحدود قابلتنا عدة سيارات محملة بالوقود، والبضائع، في طريقها إلي مدينة «رفح» التي لا تبعد كثيرا عن المنطقة، في حماية سيارات الدفع الرباعي الصغيرة، لتأخذ طريقها إلي قطاع غزة الفلسطيني، عبر الأنفاق، ويكشف لي مرافقي سر اكتشاف أمر العديد من المتسللين الأفارقة، وإصابتهم أو مقتلهم علي الحدود، مؤكدا أن الأمر كان يمر بسلام في البداية، عندما كانت عمليات التسلل محدودة، ويؤكد أن المهربين في البداية كانوا يأمنون المتسللين حتي الجانب الآخر من الحدود، ثم يعودون أدراجهم، لكن التوسع في عمليات التسلل، وزيادة أعداد المتسللين دفعا بالكثير من المهربين إلي الحصول علي الأموال، ثم توصيل الأفارقة إلي أقرب ثغرة حدودية، ليطلبوا منهم عبور الحدود بسرعة، ويعودون هم أدراجهم، دون أن يهتموا بمصير المتسللين.
في طريقنا نعرج علي إحدي «العشش» الخاصة باستقبال وتجميع الأفارقة قبل تهريبهم، دون أن يعرف أحد أن هناك متسللين بها، خاصة وأن هناك تيارًا كبيرًا من أبناء المنطقة الحدودية يرفض فكرة تهريب الأفارقة بهذه الطريقة، ولذلك يتكتم بعض أبناء القبائل الذين احترفوا تهريب الأفارقة كمصدر رزق يؤمن لهم العيش، ويلجأ مثل هؤلاء إلي تهريب مجموعة صغيرة من المتسللين أو اللاجئين شهريًا، لكن هؤلاء يعرضون حياة المتسللين للخطر أكثر من غيرهم، لأنهم يلجأون إلي توصيل المتسللين الأفارقة إلي الحدود فقط، ليتركوا مهمة العبور للجانب الآخر بعد ذلك علي عاتقهم.
نصل إلي إحدي النقاط الحدودية قرب معبر «كرم أبوسالم» الحدودي، ويشير مرافقي إلي الثغرة الحدودية التي يتسلل من خلالها الأفارقة، وهي أقرب الثغرات وأكثرها خطرا، ويلجأ المهربون الأكثر حرفية، والأكثر معرفة بالمنطقة إلي ثغرات أخري جنوبا، في المنطقة الأكثر وعورة، والأضعف تأمينًا، والتي تتدرج من حيث ضعفها حتي منطقة «الكونتلا» بوسط سيناء.. ونعود بعد ذلك من نفس الطريق غير المحدد بأي معالم أو علامات، إلا ما يعرفه دليلنا الذي يتحرك وكأن المنطقة عامرة بالعلامات الاسترشادية.. وبعد ساعة أو أكثر قليلاً من المشي تقابلنا إحدي سيارات الدفع الرباعي التي يبدو أن قائدها علي معرفة بالدليل، فيتلقفنا، وينقلنا إلي أقرب المناطق المأهولة من نقطة تحركنا بقرية «شبانة».
استطعت إجراء مقابلات قصيرة مع بعض السودانيين المقيمين بسيناء، لأفاجأ بأن بينهم مجموعة من اللاجئين المسجلين لدي مفوضية الأمم المتحدة، ويحكي «م» أحد هؤلاء، عن قتلي الحدود، وخاصة من السودانيين، ويؤكد أن الحكومة تبلغ السفارة بمقتل أحد السودانيين، إن استطاعت تحديد هويته، لكن السفارة لا تهتم في الغالب بهؤلاء، ليتولي السودانيون المقيمون بالمنطقة ذلك بدافع إنساني، ولإكرام بني وطنهم «دفنا» بعد أن تخلت عنهم حكومتهم، بحسب تأكيده.. ويضيف «م» أنه قام بدفن بعض القتلي السودانيين، في مقابر العريش والشيخ زويد.
ويحكي السودانيون المقيمون بالشيخ زويد عن مواطنهم «يوسف محمد»، الذي عاش بينهم بالمدينة كلاجئ لأكثر من 15 عامًا، قبل أن تضيق به السبل لعدم وجود مصدر رزق ثابت له، خاصة وأن معظم السودانيين بالمنطقة يعملون في أعمال يدوية غير مستقرة مثل البناء والنقاشة، وبصفة مؤقتة، ويؤكدون أن «يوسف» حاول التسلل عبر الحدود نهاية العام الماضي، لكنه لقي حتفه علي الحدود، ودفن إلي جانب مواطنيه الذين لا يستدل علي هويتهم بمقابر الشيخ زويد.
كان من المفترض أن ألتقي بمجموعة من المتسللين بالقرب من قرية «المهدية» الواقعة بين مدينتي رفح والشيخ زويد، بعد أن مهد وسيط لفكرة لقائي بهم لدي مهربيهم، دون تصوير أو تسجيل، ودون أن أميز المكان الذي ألتقيهم فيه، علي أن أذهب إليهم وحدي عند بداية الطريق المؤدي إلي القرية، لكن مرافقي السيناوي خلال رحلتي رفض الفكرة، وحذرني من رد فعلهم حال شكهم في هويتي، أو خوفهم من أن أشي بهم للأجهزة الأمنية، وطلب أن يحضر معي كضامن، باعتباره أحد أبناء القبائل، وضمانًا لأمني وسلامتي، لكن المهربين رفضوا الفكرة شكلاً وموضوعًا، رغم محاولات الوسيط الذي مهد اتصالي بهم من البداية، وانتهي الأمر بالرفض، ثم وافق المهربون علي أن أتحدث مع اثنين من المتسللين عبر الهاتف، وهو ما كان، لأتحدث مع «عبد المالك» سوداني الجنسية، و«سامويل» إريتري، علي حد قولهما، وسألت الأول عن دافعه لمخاطرة قد يكون الموت عاقبتها، فأكد لي أنه واجه الموت علي يد الجيش السوداني من الجنوب، وكتب له عمر جديد، وانتقل لمصر مع مجموعة من مواطنيه، لكن عدم وجود عمل أو مصدر رزق له بمصر يعني موته أيضًا، وقال: «لو نجحت في التسلل فسأحيي حياة كريمة، ولإن فشلت فهو قضاء الله الذي لا راد له».. فيما بدا الإريتري «سامويل» شديد التحفظ وتحدث معي بعصبية شديدة، مؤكدًا أنه لا يثق في الصحفيين، وأنه يعرف أنه لا يهمني حياته أو موته، بقدر ما يهمني الحصول علي «سبق» صحفي، وأكد أنه لا يرغب في الحديث قبل أن يترك الهاتف للوسيط الذي أبلغني بأن المكالمة انتهت عند هذا الحد وأغلق الخط... بمجرد انتهاء رحلتي، وبعد لحظات قليلة من وصولي للقاهرة اتصل بي الوسيط الذي دبر اللقاء وأخبرني بأن المجموعة التي كان من المقرر أن ألتقيها، والتي تحدثت مع اثنين منها هاتفيًا قد تسللت مساء اليوم ذاته، وأن المسئولين عن تهريبهم قد وافقوا في البداية علي لقائي بهم، لأنه لم يكن أمامهم إلا ساعات قليلة علي عبور الحدود، قبيل لحظات من إحدي مباريات المنتخب القومي لكرة القدم، والتي استحوذت علي اهتمام الجميع، قبل أن يؤكد لي أن الشرطة قد فتحت النار علي المتسللين وأردت «سامويل» الإريتري - الذي رفض الحديث معي قبلها- قتيلاً، فيما أصيب اثنان آخران، ونجح 4 في العبور للجانب الإسرائيلي بنجاح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.