وبعيدًا عمن سيحتل مقاعد مجلس الشعب، وبعيدًا عمن هو الرئيس، ومن سيصبح الرئيس بعد أقل من أربعة أعوام، وبعيدًا عن مراكز الأحزاب والحركات السياسية ومراكز حقوق الإنسان.. ومناقشات صلاحيات الرئيس والمجالس النيابية وغيرها من أمور السياسة التي طغت على كل أوجه حياتنا.. وبلا استثناء.. لا توجد مشكلة واحدة من مشكلات حياتنا الحالية إلا ونجد في آخر سلسال عقدها انحرافًا ثقافيًا، أو عجزًا في ميزان المعتقدات والثوابت عند أهل القضية.. سواء ما كان منها قديمًا مترسخًا كالذي نراه في مشكلات الصعيد وأهل البدو والصحراء، وما نراه حديثًا كالذي تزخر به القاهرة بملايين البشر فيها، من سكن منهم أحياءها الراقية ومن سكن منهم عشوائياتها المترامية.
ومهما أوغلنا في التفكير في أي من مصائبنا لابد وأن نصطدم في نهايتها بحائط كبير اسمه ثقافة خاطئة. لننظر مثلا إلى علاقتنا بالشارع.. كيف نراه؟ وكيف نتعامل معه؟ السيارات التي تتسابق في الشارع وتنحرف لتسرق الطريق وتعربد فيه.. أي ثقافة استقرت عند سائقها ورسمت له الشارع ميدان معركة.. أو ربما لعبة في الملاهي.. يلقي الناس مخلفاتهم على اختلافها في الشارع باعتبار أنه مملوك للأعداء.. وعليهم تدميره قبل الوصول إلى بلادهم..
تتلألأ المحلات الفاخرة بأنوارها وأبوابها وبضاعتها.. وبجوارها تمامًا ترقد أكوام المخلفات وكأننا ننظر إلى صورة رائعة على حائط مشوه.. وقد نستيقظ يومًا فنجد طلبة الجامعات والمدارس ينتشرون بروح جميلة ينظفون ويجملون.. لكننا نعرف في قرارة أنفسنا أنه لن يحل مغيب الشمس حتى ترجع ريمة لعادتها القديمة. وقد تكون هذه العادة ذات منشأ ريفي إذ نذكر مشهد القروية التي تخرج لتلقي بريش الفراخ وبقاياه أمام المنزل لتكيد جيرانها. ونعرف كذلك أن مشكلة من مشكلات تلوث النهر عندنا تتمثل في إلقاء الحيوانات الميتة فيه بدلا من دفنها. ونعود إلى ما يسرق الأضواء هذه الأيام.. مقار الكيانات السياسية والتي تسيطر الآن على مساحات النظر أمام أعيننا.. نحن لم نسمع أن حزبًا أو مقرًا لحركة قد أخذ على عاتقه تنظيف ولن أقول تجميل المنطقة حول مقره..
ولأن العيب الأكبر في مشكلة كهذه هو في تأصل ثقافة معاداة الشارع عندنا، فيكون من العبث أن نتصور أن حلها الوحيد هو عربات النقل الضخمة تنزح القاذورات (وإن كنا نحتاج حتمًا إلى ذلك).. لأن الناس وبنفس الروح العدائية سيعودون لإلقائها من جديد.
ويكون من قصور التفكير أن نتصور أن حل مشكلة الشارع المصري الوحيدة هو قوانين المرور الصارمة (وإن كنا نتمنى أن يعود الإنضباط وصرامة القوانين إلى الشارع المصري) لكن الناس وعند أول غياب لرجل المرور أو أول تعطل لإشارات المرور أو أول تراخٍ في جباية مخالفات المرور سيعودون للتلذذ بكسر قواعد المرور واطلاق صيحات النصر على جثة الشارع المصري. من هو المسئول عن إرساء ثقافة ما في أنفسنا؟
أتصور أن محاولات فردية في هذا المضمار ستكون بمثابة نقل تلٍ كبيرٍ من مكانه بملعقة.. خاصة عندما تكون هناك وزارة كاملة بوزيرها وموظفيها وكوادرها يقع على عاتقهم التخطيط لإصلاح خلل ما في تصرفات المواطنين والتنسيق مع باقي الوزارات المعنية بهذا الخلل لمحاولة إرساء ثقافة جديدة.. توفر كثيرًا من الوقت والمال وتسير بمجتمعنا نحو غدٍ أكثر إنسانية.