" أنا مش فاتحها شئون اجتماعية" ! هكذا برر الأستاذ "سعد عبد الرحمن" رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة قراره باستبعاد الأديب المحترم "علاء الديب" من العمل بجريدة القاهرة ؟
فهل نفهم من صيغة الجملة أن الأستاذ "علاء الديب" كان يتلقي مكافأته كمعونة أو صدقة من جريدة القاهرة، وليس مقابل مقالة أسبوعية مهمة وممتعة، وتنبه الأستاذ سعد لهذا فبادر من فوره لمنع "هدر المال العام"، وإيقاف الخلط بين مهام هيئة قصور الثقافة والشئون الاجتماعية .
وبحكم عملي كصحفي استوقفني شئ مهم، وهو التداخل بين قراره هذا وصلاحيات رئيس تحرير جريدة القاهرة، الذي له مطلق الحرية في استكتاب المبدعين والكُتّاب، أم أن سلطة رئيس الهيئة عابرة للإختصاصات، ورئيس التحرير في نظره "موظف" لا يحق له المناقشة. وقبل استعراض جوانب قرار الأستاذ سعد أود التنويه لانطباعاتي عنه عند توليه مسؤلية الهيئة العامة لقصور الثقافة وكانت كلها إيجابية جدا، وتتبعت نشاطه مثل عموم الناس، واستبشرنا خيرا، وشاهدت أداؤه في إعادة الحياة لأنشطة الهيئة، ومنها مثلا احتفالا بترجمة أعمال "كفافيس" في النادي اليوناني، حضرته وكتبت عنه، واطمأن الجميع لفكرة أن يكون علي رأس الهيئة شاعرا، اشتهر بالجدية والدأب والنزاهة، إضافة لفهمه الدور القومي للهيئة.
لكننا قبل شهور عديدة فوجئنا بالأستاذ سعد يستبعد المخرج المسرحي المعروف " أحمد اسماعيل" من مشروع "مسرح الجرن" وهو مُبتكره ومؤسسه، بحجة أن أحمد اسماعيل يتلقي مكافأة كبيرة، وهي ألف وخمسمائة جنيه شهريا، وأنه سيبلغ سن التقاعد من المسرح القومي المنبت الصلة بهيئة قصور الثقافة، وهما حجتان واهيتان لا علاقة لهما بشئ إلا تعطيل المشروع الثقافي الكبير، والذي يمكنه إفادة آلاف القري والمدن الإقليمية في المستقبل القريب، وبما يتفق وصميم أهداف هيئة قصور الثقافة، ولم يستجب لكل النداءات والمناشدات، وصمم علي قراره، لكن الدكتور "صابر عرب" وزير الثقافة بادر بإنقاذ المشروع وإيقاف قرار الاستبعاد الغامض وسط حشد من كبار الفنانين والمثقفين اجتمعوا في المجلس الأعلي للثقافة وطالبوا الوزير فاستجاب لمطلبهم.
والآن يتكرر الأمر مع الأستاذ "علاء الديب" بمبرر واه لا أجد له وصفا أفضل من القول المأثور:"عذر أقبح من ذنب"، فها هي حجة "توفير الفلوس" تعود مجددا، والمبلغ هذه المرة ألفان وخمسمائة جنيه "بحالهم"، في هيئة ميزانياتها تُعدّ بالملايين، وربما بعشرات الملايين !. فإذا كانت هيئة قصور الثقافة ملكا للشعب و"هو اللي فاتحها بفلوسه وعرق جبينه"، أليس من حق الشعب ونحن منه أن يراجع مكافآت كل قيادات الهيئة، والمتعاونين من خارجها مثل المسؤلين عن رئاسة تحرير السلاسل والإصدارات، وهم يتقاضون شهريا أضعاف مكافأة الأستاذ "علاء الديب" من دون عمل حقيقي، وإن بدت المسميات مهمة، وبعضهم في الحقيقة من أعداء الثقافة، ويستحق من منحهم هذه المواقع المساءلة. وقال الأستاذ سعد عبد الرحمن أيضا في تصريحه لصديقنا حسن عبد الموجود أنه سيستعين بأي "أديب من موظفى الهيئة" ليكون بديلا عن " علاء الديب"، وأنا أرجوه أن يذكر لنا اسم هذا الأديب مع احترامنا لهم جميعا، لنصفق له، فأي مُخلّص هذا الذي سيوقف "إهدار علاء الديب للمال العام"، وبلا مليم واحد ؟ .
فأي عاقل ذلك الذي يقبل تحويل أديب بقيمة " علاء الديب " إلي شخص يأخذ من مال الشعب مالا يستحقه، في الوقت الذي يستحق التكريم الأدبي والمادي عن جدارة ، وبأضعاف مبلغ المكافأة الهزيل هذا، لما قدمه من أعمال إبداعية، ونقدية، وترجمات، واكتشافه المواهب لعدة عقود وتعبيد الطريق لهم في البدايات، و"عصر الكتب" المهمة بدأب لتشجيع الناس علي الاستنارة والفهم، أليس هذا الدور يساوي ما تقوم به الهيئة ؟ ألم يكن "عصير الكتب" واحدا من نوافذ الثقافة النزيهة النقية، الخالية من الأهواء والمصالح والتربيطات، يتنسم فيها الناس رائحة الأدب فنيّا وأخلاقيا، و ينفتحون علي بساتين الإبداع، وكثير من الكُتّاب ما زالو يعتزّون بتدشين " علاء الديب" لهم من بابه الشهير في مجلة " صباح الخير" . فهل تظن يا أستاذ سعد أن توفير مبلغ ضئيل كهذا ينقذ ميزانية الهيئة والوزارة ويساهم في حل عجز الموازنة العامة، ألا تعرف وأنت شاعر مُحترم ومُقدّر أن هذه الفلوس وغيرها أيضا لا تكفي قيمة الدواء الشهري للأستاذ "علاء الديب"، وأنك لو ذبحته لن يذكر لأحد ما أقوله هذا ؟
ألم يكن حريّا بك أن تذهب لزيارته أنت والسيد وزير الثقافة في بيته لتري بعينك أن الأستاذ "علاء الديب" لا يستطيع أن يمشي من دون " عكاز"، وأنه يجرّ رجله بطريقة تحزُّ القلب، وأنا أعرف أنه سيغضب لإفشائي أسرارا تتعلق بحياته الشخصية، لكن ضميري لا يحتمل السكوت، وأظنك تعرف أيضا أنه قبل سنوات أجري جراحة قلب مفتوح، وأعيد فتح صدره فيها ثلاث مرات، وتركت آثارا جانبية يعانيها للآن، أقلها فتق بالحجاب الحاجز، إضافة إلي السكر والضغط المزمنين، ويحيا رهينة لهما، وأن وزير الثقافة آنذاك تراخي في سداد مبلغ كان قد تعهد به مساهمة في كلفة الجراحة، وصدر ضد الأستاذ علاء حكما بالحبس وهو في غرفة العناية المركزة، ورفضت المستشفي خروجه إلا بعد سداد المبلغ، وأن رئيس جهاز المخابرات الأسبق هو الذي أنقذ الأديب من إهمال وزارة الثقافة، التي يبدو أن لديها"غِيةّ" في ترصد هذا الأديب الكبير، والتخلي عنه بمناسبة وغير مناسبة.
لعلك تدرك الآن يا أستاذ سعد ما فعله إخلاصك لعجز الموازنة العامة، وما يمكن أن تسببه تصريحاتك بأنك "مش فاتحها شئون اجتماعية" علي نفسية رجل عَفُّ النفس، آثر العيش في الظل لفرط حياءه وكرم أخلاقه، ولم يزاحم أحدا طوال عمره علي أي شئ، ولم يكن يوما طالبا، بل ظل طوال عمره مطلوبا، يطرق الجميع بابه طلبا لمشورته وكتاباته ورؤاه الهادية الناصعة، ومعروف للكافة أن الأستاذ صلاح عيسي رئيس تحرير القاهرة هو الذي طلب منه كتابة مقالة أسبوعية لجريدة القاهرة وقت إصدارها، ووافق هو حُبّاً في الأدب ودعما للمواهب، ولم يطلب أي شيئ وحددوا هم له هذا المبلغ الشهري البسيط الذي استكثرته أنت عليه، واعتبرته صدقة مكروهة.
أما قولك بأن الجريدة تسبب خسائر كبيرة، ومرتجعاتها تصل إلي 70% حسب تصريحاتك، وأن قطاعات وزارة الثقافة " تحصل على أغلبية النسخ المباعة، ولو امتنعت لن توزع الجريدة 100 نسخة"، فلا ذنب للأستاذ علاء الديب في ذلك من قريب أو بعيد، وأنت تعرف من المُقصّر يقينا لكنك لم تذكره بكلمة واحدة، وبما أنني من الشعب الذي يمتلك هذه الجريدة ويصرف عليها من ماله العام، أعتقد أن غلقها كان القرار الأصوب لإيقاف "هدر المال العام"، ولأنها بنص كلامك باتت " تمثل عبئا علي الميزانية، وتستنزفها دائما، وحتي أفعل ذلك لابد من ترشيد الإنفاق" ، لكن طلقة " ترشيد الإنفاق" ضلت طريقها إلي وجهتها الصحيحة وأصابت قلب الأديب "علاء الديب" مباشرة لتزيده وجعا علي وجعِه .
و"الأكادة" يا أستاذ سعد أنك لم تتردد في قول :"علاء الديب قامة كبيرة جداً فى الأدب المصرى، والمسألة لا تتعلق بنظرتى الشخصية إليه، وإنما تتعلق بالميزانية" فهل توفير هذا المبلغ سينقذ جريدة القاهرة التي تخسر شهريا عشرات الآلاف بلا مردود ثقافي ملموس، أم أن هناك إجراءات أخري لانعرفها سيجري اتخاذها في هذا الشأن، وإن كنا لم نر منها حتي الآن سوي "البَصّ في ثمن الدواء الشهري" لأديب هدَّهُ المرض والحياء والإيثار.
والغريب أنك أضفت في تصريحك ذاته وبقلب ثابت إن : "الديب ليس مُعيّناً داخل الجريدة حتى أقيله، ولكنه بالنسبة لى لن يكون موجوداً خلال الفترة القادمة" فمن أين لك بهذه الحالة التي استولت عليك في الاستخفاف "بقامة كبيرة جدا في الأدب المصري"، وهل حق رؤساء هيئات وزارة الثقافة مطلق هكذا في تجريس الرموز الأدبية بحجة حماية الميزانية، وهل أمر كهذا يمكن أن يحدث في أية دولة متحضرة، خاصة بعد ثورة هفت إليها القلوب وتعلقت بها الآمال في حماية كرامة الناس والوطن، ألم يكن جديرا بك وبالسادة رؤساء هيئات وزارة الثقافة أن تبادروا بإنقاص بضعة آلاف شهريا من رواتبكم االضخمة، حبّا في الوطن و"ميزانيته"، لتمكنوا الوزارة والدولة من تكريم رموز الثقافة الكبار وفي الصدارة منهم الأستاذ "علاء الديبِ"، أو إعادة النظر في بعض الأنشطة غير الجوهرية تشبه "الحنفيات السايبة" وظاهرة للعيان.
والأنكي من كل هذا قولك :" أنا أعلم أن هذا الكلام سيقلب المثقفين علىّ، ولكن أنا لا أتعامل بالعواطف، ولكن هناك مال أنا مسئول عنه، ولا يمكن أن أتسبب فى إهداره".
ألا تُعدّ هذه "استهانة استباقية" منك برأي المثقفين الذين يرفضون التشهير بأديب يحظي بأرفع درجات التقدير في الوسط الثقافي، فكيف استطعت بجد الجمع بين تقديرك لعلاء الديب "القامة الكبيرة جدا"، والاستغناء عنه بهذه الطريقة، واستخفافك بالمثقفين وهم ذخيرتك لكل مشاريع الهيئة، ونطقت كل هذا الكلام المؤلم لتوفير (2500) جنيها مصريا فقط لاغير.