مدبولى: مهتمون بمجال ريادة الأعمال لأهميته في تسريع النمو الاقتصادي وتحقيق رؤية 2030    القيادة المركزية الأمريكية: الحوثيون ضربوا بصاروخ ناقلة نفط ترفع علم بنما    مراسل "إكسترا نيوز": الاحتلال دمر 1400 منزل مزدحم بالسكان فى رفح الفلسطينية    مرموش يسجل وينهي موسم فرانكفورت بتعادل مع لايبزج.. وتوخيل يودع بايرن بخسارة برباعية    وزير التعليم ومحافظ بورسعيد يعقدان اجتماعا مع القيادات التعليمية بالمحافظة    لافروف: روسيا منفتحة على الحوار مع الغرب بشأن الاستقرار الاستراتيجي    متحدث فتح: نتنياهو لا يريد حلا.. وكل من يقف جانب الاحتلال سيلوث يده بدماء الأبرياء    «الأوقاف» تفتتح 10 مساجد بعد تجديدها الجمعة المقبلة    من هو أفضل كابتن للجولة الأخيرة من فانتازي الدوري الإنجليزي؟.. الخبراء يجيبون    تعليم الدقهلية تكشف تفاصيل متابعة سير امتحانات الشهادة الإعدادية    كان مقدسًا عند الفراعنة.. عرض تمثال ل"طائر أبو المنجل" فى متحف شرم الشيخ (صور)    19 صورة لاكتشاف نهر بجوار الهرم الأكبر.. كيف بنى المصريون القدماء حضارتهم    عزة مصطفى: عادل إمام شخصية وطنية.. وكل الشرائح العمرية تحب أعماله    الوالدان يستحقان معاملة خاصة.. الأزهر يناقش حقوق كبار السن بملتقى المرأة الأسبوعي    «الصحة» توجه نصائح هامة لمرضى الجيوب الأنفية للحماية من التقلبات الجوية    بالخطوات.. طريقة الحصول على نتيجة الشهادة الابتدائية 2024    كوكا يقود تشكيل ألانيا أمام سامسون سبور في الدوري التركي    رسميًا.. إشبيلية يعلن رحيل مدربه بنهاية الموسم    وزير التعليم: لدينا 46 ألفًا و994 طفلًا من ذوي الهمم.. و159 ألفًا و825 بمدارس الدمج    مذكرة قواعد اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي 2024.. لا يخرج عنها الامتحان    إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم توكتوك مع ميكروباص في المنيا    مواعيد القطارات المكيفة والروسى على خط القاهرة - الإسكندرية والعكس    أخبار مصر.. غدا طقس شديد الحرارة ورياح والعظمى بالقاهرة 38 درجة    «معلومات الوزراء» يعلن أجندة وبرنامج عمل مؤتمره العلمي السنوي بالتعاون مع جامعة القاهرة    حصاد تريزيجيه مع طرابزون قبل مواجهة إسطنبول باشاك شهير فى الدوري التركي    برج الثور.. حظك اليوم السبت 18 مايو: عبر عن أفكارك    تاني تاني.. تغيير جلد ل غادة عبد الرازق وأحمد آدم    المعارضة الإسرائيلية: على جانتس الاستقالة اليوم    الحكومة تعتزم تطوير فندق النيل "ريتزكارلتون" بميدان التحرير لزيادة العائد    كيف يمكن أن تساعد بذور الحلبة فى إدارة مستويات السكر بالدم؟    العلاج على نفقة الدولة.. صحة دمياط تقدم الدعم الطبي ل 1797 مواطن    معلومات عن متحور كورونا الجديد FLiRT .. انتشر أواخر الربيع فما أعراضه؟    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. علي جمعة يوضح    هل مواقيت الحج والعمرة ثابتة بالنص أم بالاجتهاد؟ فتوى البحوث الإسلامية تجيب    وزير الصحة يشيد بدور التمريض في رعاية مصابي غزة    حبس المتهم بسرقة مبالغ مالية من داخل مسكن في الشيخ زايد    حزب الله يعلن استهداف تجمعا لجنود الاحتلال بثكنة راميم    نجم الترجي السابق ل «المصري اليوم»: إمام عاشور قادر على قلب الطاولة في أي وقت    مصرع طفلة دهستها سيارة "لودر" في المرج    السفيرة سها جندي تترأس أول اجتماعات اللجنة العليا للهجرة    مسؤولو التطوير المؤسسي بهيئة المجتمعات العمرانية يزورون مدينة العلمين الجديدة    8 تعليمات مهمة من «النقل» لقائدي القطارات على خطوط السكة الحديد    محافظة القاهرة تنظم رحلة ل120 من ذوي القدرات الخاصة والطلبة المتفوقين لزيارة المناطق السياحية    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحتل المرتبة الثالثة في شباك التذاكر    مصر تنافس على لقب بطولة CIB العالم للإسكواش ب3 لاعبين في المباراة النهائية    «الصحة»: وضع خطط عادلة لتوزيع المُكلفين الجدد من الهيئات التمريضية    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    طلاب الإعدادية الأزهرية يؤدون امتحاني اللغة العربية والهندسة بالمنيا دون شكاوى    محافظ المنيا: استقبال القمح مستمر.. وتوريد 238 ألف طن ل"التموين"    رئيس جامعة بنها يتفقد الامتحانات بكليتي الحقوق والعلاج الطبيعي    موناكو ينافس عملاق تركيا لضم عبدالمنعم من الأهلي    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    وُصف بالأسطورة.. كيف تفاعل لاعبو أرسنال مع إعلان رحيل النني؟    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    الفصائل الفلسطينية تعلن قتل 15 جنديا إسرائيليا فى حى التنور برفح جنوبى غزة    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    بالفستان الأحمر.. هانا الزاهد وعبير صبري في زفاف ريم سامي | فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سامح فايز.. العائد من جنة الإخوان (6)
نشر في الدستور الأصلي يوم 03 - 11 - 2012

لم يكن سامح فايز فى رحلته الإخوانية سهلًا طيّعًا، ولكنهم كانوا يظنونه شابًا مشاغبًا مزعجًا، وكان مرد هذا الظن أنه كثير السؤال! كثير الاستفهام، وهذه أشياء تقدح فى إخوانيته، فكان أن تسلَّق سور الجماعة ونظر إلى العالم الذى كان يظنه عالم الأشباح، فإذا به عالم من لحم ودم، حياة إنسانية بكل معانيها، غاب عنها وغابت عنه، عرف وقتها أنه كان يعيش فى عالم الأشباح، فقرر أن يقفز من سور الجماعة، وولى هاربًا لا يلوى على شىء، فقط قرر أن يكون مصريًّا خالصًا، يختلط إسلامه مع مصريته فيصبح مصريًّا سائغًا لا مثيل له، وحين ترك عوالمه الأولى وانضم إلى العالم الحقيقى قرر أن يكتب تجربته.

كانت دائرة مغلقة، أسوارا عالية، إلا أنها ما لبثت أن أوشكت على الانهيار. كان انتقالى إلى المدرسة الثانوية بمدينة أخرى بداية هذا الانهيار. المدرسة الإعدادية حتى وإن كانت فى قرية أخرى غير قريتى إلا أنها لا تزال قرية، تحمل نفس الأفكار التى تحملها قريتى، فالقرى ليست فى حاجة إلى أديان تشدد على أهلها، فأعرافهم وتقاليدهم تكفى وزيادة، أما المدن فالأمر نوعا ما مختلف.

وكما أنه كان هناك صعود فى مواطِن، كان هناك هبوط فى مواطِن أخرى، فكلما زاد اهتمامى بمحاولة الخروج من شرنقة الإخوان، وكلما زاد اهتمامى بالسعى لإيجاد إجابة لتساؤلاتى، كان هناك هبوط فى مستواىَ الدراسى، وكان هناك هبوط فى علاقاتى الاجتماعية وصداقاتى. محاولاتى للخروج من الإخوان كانت تستلزم تركى تلك البيئة بالكلية، حتى تلك الأسرة التى كنت أجلس معها فى دائرتى الإخوانية، كنت لا أجد سعادة وأنا معهم، هم أضحوا أصدقاء لا يفارقون بعضهم، حاولوا كثيرا إدماجى فى صداقتهم تلك، غير أنهم لم يفلحوا، كنت فى واد آخر، وعوالم أخرى، تدور كلها فى فلك البحث عن النفس.

بدأت أملّ من دراستى، لم أكن أجد بين ظهرانى كتبى المدرسية أى إجابات تشفى الغليل، كانت عقيمة، يعلوها التخلف، لا أدرى من هذا الذى ابتلينا به صاحب فكرة الكتب المدرسية تلك. نوعا ما كنت أجد الملاذ فى كتاب التاريخ وكتاب النصوص الشعرية على ما فيهما من نقص يخل دائما بالنص، غير أنى كنت أحصل على طرف الخيط من تلك النصوص وأغذيها بقراءات حرة من الخارج. أستعين دائما بمكتبة المدرسة، لم أكن أملك من المال ما يكفى لشراء الكتب، وأبى كان يجد فى القراءة الحرة ملهاة عن دراستى الأصلية التى ستجعل منى إنسانا مرموقا، فكان لا يعطينى المال اللازم لشراء الكتب، أو بمعنى أدق فإن راتبه الحكومى كان لا يكفى إلا لما يسد رمق أسرة مكونة من زوج وزوجة وخمسة أبناء. ومكتبات الإخوان كانت لا تحوى سوى كتب الفقه والسيرة والعقيدة التى يكتبها رجالات الإخوان ليقرأها الإخوان.

كان العثور على رواية فى تلك الآونة بمثابة من وجد كنزا لا مثيل له، لكن هذا الأمر لم يلبث إلى حين، ذلك أنه كانت لدينا جارة تدرس فى الجامعة كانت تملك مكتبة ضخمة، العجيب أنها لم تكن يوما من الإخوان، وهذا أمر جلل فى قريتى، كيف كان لها أن تفلت من براثنهم، خصوصا أنهم يلقون شباكهم أكثر حول الطلبة والتلاميذ؟ تواصلت مع تلك الجارة وكانت تمدنى دائما بالروايات والقصص، توماس مور، شكسبير، تشارلز ديكنز، أذكر أنى قرأت تشارلز ديكنز فى عام 1996، كنت حينها على مشارف الالتحاق بالمدرسة الإعدادية، أوليفر تويست، لا أعرف لماذا كنت أعشق تلك الرواية لتشارلز، هل كنت أنا الآخر أبحث عن عائلتى بعيدا عن هؤلاء الذين اغتصبوا طفولتى.

مثلت لى مكتبة المدرسة ومكتبة جارتى العون على مسعاى، غير أن هذا السعى عاد بالسلب على دراستى، وتحولت من قائمة المتفوقين إلى قائمة الأغبياء على حد قول بعض أساتذتى، غير أن بعضهم كان يرانى مختلفا، خصوصا أستاذَى التاريخ واللغة العربية، أما غيرهما فكان يرى أن أمثالى لا حل لهم سوى أن يتركوا أماكنهم لأناس لهم عقل أرقى، هؤلاء الأغبياء كانوا لا يقلون قتلا للإبداع عن الإخوان.

لم تكن الصورة قد تشكلت بعد وأنا فى تلك المرحلة، فلم أترجم أحاسيسى حينها على أنها بداية الخروج من الدائرة، إنما ترجمتها أنها ضعف عقيدة، وإيمان أضحى هزيلا ويجب تقويته، هكذا تعلمنا.

السؤال عن بعض الأمور فى جماعة الإخوان أو التيار الإسلامى عامة يعد ضعفا فى العقيدة وجب مداواته. يقولون إذا تعارض النص مع العقل قدم النص على العقل، وقد كنت أجد صعوبة فى تقديم النص، أى أن إيمانى بعقيدة أهل السنة إيمان منقوص، لهذا كنت أسعى لتقوية إيمانى بالاستزادة من الصلاة والقيام وقراءة القرآن.

أذكر أنه فى مرحلة من مراحل الترك مرّ علىّ عام كامل وكأنى راهب يحيى فى صومعة، قيام وصلاة وقرآن ودعاء، كنت أسعى لقتل تلك الوساوس، لأن أشد من أزرى الواهن كما أخبرونى، كنت فى عزلة تامة عن كل ما هو دنيوى، وكنت دائما ما أسعى للتطهر من هذا الرجس والنجس الذى تفشى فى مجتمعاتنا، غناء وفن وحب وملهاة عن ذكر الله، هل مرّ على أحدكم عام كامل لم يشاهد تلفازا أو يستمع لإحدى روائع أم كلثوم؟

سوى أنى لم أدرك إلا حديثا أنهم هم الواهنون، قال أحد شيوخ الصوفية «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، هل كانت عبارة الإخوان المسلمين أضيق من رؤيتى؟ ربما.

المرحلة الثانوية كانت مرحلة من الثراء لا تقارن بأى حال من الأحوال بأى مرحلة أخرى، فالمذاق الأول لكل شىء يكون له صدى أوقع، وفى تلك المرحلة كان المذاق الأول لألوان حياتية عدة. ولو تمكن لى أن أقدم الشكر لشىء ما، لقدمت الشكر لمكتبة تلك المدرسة التى احتوتنى بأرففها التى غزت عقلى حينها بما احتوته من مئات الكتب.

ولأن المدينة تملك أخلاقا تختلف نوعا ما عن أخلاق القرية فقد عينت نفسى نبى تلك المدرسة التى جاء لينشل طلابها من الضياع. أذكر تلك الخطب العصماء التى كنت ألقيها على الطلاب فى فصلى عن الجنة والنار والطاعة، عن فلسطين وحربنا مع اليهود، كان الأساتذة إن أرادوا أن يهربوا بأعصابهم من حصة مملة طلبوا منى الحديث مع الأصدقاء عن هذا الدين الجديد. كنت أبشرهم بالإخوان المسلمين، الذين جاؤوا لينشلوهم من الضياع، وكان هذا الأمر يسمى فى الإخوان الدعوة الفردية، فأنت مطالب دائما بإحضار أحدهم لإعانته على الهداية والعودة من ضلاله.

ولأن احتياجى إلى المال كان يسبب لى أرقا حينها عرض علىّ أحد شباب الإخوان الأكبر منى سنا، الذى كان يملك مكتبة لبيع الأدوات المدرسية والأشرطة الدينية والكتيبات الإسلامية أن أبيع تلك الحاجيات للطلبة فى مدرستى، وقد كان. كنت أذهب إليه يوميا لإحضار ما يتسنى لى حمله من الأشرطة والملصقات التى تحمل أذكارا وأدعية وأعمل على بيعها بين أصدقائى فى المدرسة.

كان هذا الأمر يدر دخلا ليس بالقليل حينها، كانت نسبة الأرباح تعادل الضعف من الثمن الأصلى فى أحيان كثيرة، فأنت تشترى تلك الأشياء بأثمان بخسة وتبيعها كما تشاء ولن يعارضك أحد، فهل يقدر أحدهم أن يفاصل فى سعر أشرطة دينية للشيخ محمد حسان أو حسين يعقوب أو أبو إسحاق الحوينى؟ إنها من علامات ضعف الإيمان ونقص الدين، أنت تشترى وتدفع كأنك تتصدق بهذا المال، فهى ليست تجارة فى نظرك، هى أموال تخرج فى سبيل الله للتزود من علم الله.

وبدأ أول ملامح استغلال الدين يتشكل فى عقلى، ورغم أنها مصالح وتجارة، فإن هيئتى الدينية وحديثى المفعم بالإيمان كان يلهى المشترين عن مكاسبى التى أجنيها من ورائهم، وكان يعطينى الأمان أن أحدهم لن يسرقنى أو يجهدنى فى الحصول على مالى. أما المال الذى كنت أجنيه فكنت أشترى به أنا الآخر تلك الأشرطة والملصقات، أنا أيضا رغم إدراكى للأمر كنت أشترى تلك الحاجيات باعتبارها أمورا أتقرب بها إلى الله، دون أن ألحظ أن صديقى الإخوانى هذا الذى يعطينى الأشرطة والملصقات الدينية، والذى ما زال طالبا فى الجامعة قد اشترى جهازا قد ظهر حديثا يقولون إنه بإمكانك أن تحادث أحدهم من خلاله دون أسلاك، يسمى الهاتف الخلوى (الموبايل) وكان سعره حينها يجاوز الألف جنيه.



ضعف مستواىَ الدراسى حينها، الذى تسبب فى نفور الطلبة والأساتذة من حولى، وإدراكى دور الدين فى استقطاب اهتمام الآخرين مما قد يسد هذا النقص جعلنى أتمادى لا إراديا فى استخدام هذا الأمر، فأخذت أظهر هذا الأمر.

ساعدتنى قصة تجارة الأشرطة والملصقات والكتيبات الدينية تلك فى سد هذا النقص، إلى جانب ذلك اشتركت فى الإذاعة المدرسية، كنت مختصا باستحضار حكمة يومية لأحد الحكماء أو الفقهاء وإلقائها على الطلبة، أحدثت نقلة نوعا ما فى تلك الحكمة المدرسية التى عاصرناها جميعا. جميعكم يذكر هذا الطالب الذى يقف فى الإذاعة المدرسية ثم يلقى علينا حكمته التى من المؤكد أنها ليست المرة الأولى، ومن المؤكد أيضا أن مدارس مصر جميعها قد سمعتها فى إذاعاتها المدرسية: «العقل السليم فى الجسم السليم، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد».

استخدمت قراءاتى المتعددة وهذا الكنز الذى تحتويه مكتبة المدرسة فى الحصول على حكمة يومية أرددها على مسامع الطلبة، أسعدنى جدا قول أحد أساتذتى عندما قال لى إنه لم يكن يفضل حضور طابور الصباح لكونه يراه مملا، لكنه أضحى يحضر الطابور خصيصا كى يستمع لتلك الحكمة.

هذا الأمر ساعدنى لأن أتدرج سريعا فى موقعى فى الإذاعة المدرسية حتى صرت المسؤول عنها، فاستخدمت هذا الأمر لإحداث نقلة أخرى. كنت يوميا ألخص الأحداث الجارية على الساحة السياسية فى بضعة أسطر ثم أقرؤها على الطلبة فى الإذاعة المدرسية، وكانت مصطبغة بالصبغة الإسلامية دائما، من باب أنقذوا غزة، وجنين تقتل، أفغانستان، العراق، ولم أكن أبذل العناء لتلخيص أحوال الفقر والجهل والمرض المتفشى فى أهل بلدى، فتلك الأمور لم تكن موضع اهتمام داخل دوائرنا كما أخبرتكم سالفا. كنت أستعين بتلك الملصقات التى أبيعها فى أمورى تلك، كنت أحضر باكرا إلى المدرسة ومن ثم أضع بعض تلك الملصقات للشهيدة إيمان حجو الفلسطينية ذات الأربعة أشهر، أو صورة أخرى للطفل محمد الدرة الذى قتل فى أحضان والده، ولم تكن تمر دقائق حتى يأتى مدير المدرسة مسرعا ليرى من ارتكب تلك الفعلة النكراء، وينزع الملصقات، فيأتى اليوم الذى يليه فأضعها مرة أخرى.

لما اشتد الأمر وأضحيت أتمادى فى الهجوم على سياسات أمريكا واليهود ضد المسلمين، ولما أضحت الإذاعة المدرسية ذات معنى بعد أن احتلها شباب الإخوان المسلمين، قررت إدارة المدرسة تغيير المسؤول عن الإذاعة بمسؤول آخر.

كان يحاول التقليل من وطأة أفعالنا نوعا ما، إلا أن تمادى الآلة العسكرية الإسرائيلية فى قتل مسلمى فلسطين وخروج عديد من المظاهرات فى مدراس مصر تضامنا مع انتفاضة فلسطين فى عام 2001 دفعنى إلى أن أقيم يوما مشهودا فى الإذاعة حينها.

أعددت بضعة أسطر كانوا أقرب إلى السب والقذف فى الغرب الكافر، وفى أثناء خطابى فى الإذاعة قامت إدارة المدرسة بفصل الكهرباء عن الميكروفون محاولين منعى من إكمال خطابى، غير أنى لم أنته، فتقدمت إلى منتصف الفناء الخاص بالمدرسة وأكملت خطابى بصوت جهورى ارتجت له أركان نفسى، فوجدت مدير المدرسة وقد أسرع إلى الميكروفون -الذى أعادوا إليه الكهرباء- وأخذ يرد على ما قلت كلمة بكلمة، وينعته بأنه كذب وافتراء وأننى لا أفقه من أمرى شيئا. وتم اصطحابى إلى غرفة المدير وأخبرنى المدرس المسؤول عن الإذاعة أن رجالا من أمن الدولة قد حضروا إلى المدرسة لما وصلهم من إثارة بعض القلاقل من جانب بعض الطلاب، وأنهم يخشون علينا باعتبارنا أبناءهم، وأنهم سيعطوننا فرصة أخيرة للعودة من هذا الطريق الذى لن يقودنا إلا إلى كل شر.


بمجرد أن خرجت من غرفة المدير صعدت إلى فصلى الدراسى وأخذت أحدث بعض زملائى عن أننا يجب أن يكون لنا دور فى هذا الذى يحدث، ضاربا بعرض الحائط تهديد أستاذى وكلامه عن أمن الدولة.

طلبوا منى حينها كتابة بعض الهتافات، كان القرار أن نخرج فى تظاهرة بعد انتهاء اليوم الدراسى، ما لبثت أن سقطت كلمة تظاهرة على مسامعى حتى أصابتنى تلك الرجفة من جديد، وعادت الرعشات إلى يدى وقدمى، لقد طلبوا منى أن أتقدمهم، ولكنى خذلتهم، بمجرد انتهاء اليوم الدراسى تركتهم وذهبت، ولكنهم نفذوا عمليا على أرض الواقع ما جبنت أنا عنه حينها.

هل حقا جبنت؟ أم أنه الخوف من القيادة الذى حبب إلى قلبى أن أكون تابعا لا متبوعا؟ أم أننى أردت أولا أن أستأذن من شيخى؟ لقد خرجت فى مظاهرات عدة، وشاركت فى تجمعات إخوانية لا حصر لها، غير أن تلك المرة كان لزاما علىّ أن أقرر وحدى دون أن يقرر لى أحدهم، ولكنى عجزت عن اتخاذ قرارى منفردا.

فى اليوم التالى حضرت إلى المدرسة غير أن العديد من أصدقائى لم يحضر. وصل إلى مسامعى أنها كانت معركة حقا مع رجال الأمن المركزى والشرطة، فبعد أن خرج طلاب مدرستى الثانوية إلى الشارع للتظاهر انضم إليهم طلبة المدرسة الإعدادية وطلبة المدرسة الثانوية الفنية والتحموا فى مسيرة حاشدة.

لم تتركهم قوات الأمن كثيرا، ذلك أن مدرستى كانت تجاور منطقة عسكرية وليست ببعيدة عن قسم الشرطة، فما لبث العسكر أن هاجموا المسيرة وأعملوا هراواتهم فى أصدقائى واعتقلوا بعضهم، وكان منهم صديقى عمرو عاطف الذى لا أعلم أين أراضيه الآن، وصديق آخر هو محمد عبد اللطيف الذى ما زلت على تواصل معه وكان أحد المشاركين فى ثورة يناير. تملكتنى الحسرة واعترانى الندم لأننى تهاونت فى حق أصدقائى، كان يجب أن أتصدرهم فى هذا الأمر، فأنا من بدأت الأمر، وتركى لهم الآن لا ترجمة له سوى أنه نفاق.

هل يقول الإخوان ما لا يفعلون، أم أن هذا أمر خاص بى؟ حضر أصدقائى بعد يومين من الحادثة وكانوا يسيرون وقد بدا عليهم أثر التعذيب. علمت منهم أنهم كانوا فى المقدمة وأنهم نالوا الحظ الأوفر من الضرب بهراوات الشرطة، ومن ثم تم اعتقالهم واحتجازهم فى سيارة الشرطة حتى انتهاء التظاهرة ومن ثم تركوهم.

لم أجد الكلمات التى أبرر بها موقفى، غير أن تعاملهم معى لم يجعلنى فى حاجة إلى تلك الكلمات. لقد نسيت أننى الشيخ فلان، والشيوخ من المؤكد أنهم دائما على صواب، فهم لا يكذبون، ولا ينافقون، وهم أهل الله وخاصته. أدركت للمرة الثانية كيف أن الأديان قد تجعل الحقيقة مشوشة لدى الأتباع، فأنت تعامل رجال الدين على أنهم هم الدين، وأن أى طعن فيهم هو بالضرورة طعن فى الدين، وحتى تهرب من الطعن فى الدين الذى قد يهوى بك فى نار جهنم فأنت دائما ما تجد لهم المبرر، وهكذا سحل وضرب واعتقل أصدقائى وأضحيت أنا البطل وبكل سهولة، ودون عناء إلا أنى لم أقوَ على تحمل هذا الأمر، لم أقوَ على تحمل أن أكون كاذبا أقول ما لا أفعل، فكانت رحلة تركى الأولى للإخوان، تلك التى لم تحللنى كليا من ربقتهم، غير أنها كانت أول مسمار دق فى نعش دائرتهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.