يشبه إياد والده الروائي إبراهيم عبد المجيد كثيرا، تلك الروح المرحة والابتسامة الدائمة التي غالبا ما تخفي شجونا داخلية عميقة، فضلا عن ملامح أشبه بملامح طفل صغير. لكن خط العمل مختلف، فالوالد اختار منذ أن وطأت قدماه القاهرة، قادما من الإسكندرية، أن يكون كاتبا روائيا، أما الابن وبمساعدة لا ينكرها من الأب، فاختار طريق الصحافة، خاصة الفنية منها، لكن تظل هناك مساحة لم يتدخل فيها الأب، بل فوجئ بها، وهي كتابة ابنه للسيناريو، وقد يأتي يوما يتشجع فيه إياد ويخرج تلك السيناريوهات للنور، وفي حالة من حالات البوح والاقتراب، تحدث الاب والابن عن علاقتهما. بسمة إياد وضحكته الدائمة وهو صغير واهتمامه بالمدرسة وتفوقه فيها، كانت أكثر ما يحبه فيه والده الروائي إبراهيم عبد المجيد، حينها وفي مرحلته الابتدائية اعتاد إياد أن يستعين بكتب والده ومجلاته ليستمد منها موضوعاته التي يقدمها صباح كل يوم في الإذاعة المدرسية. لم يكن الأب الروائي يتدخل فيما يقرأه الابن علي مدار مراحل حياته، وقليلة هي المرات التي اشتري له فيها بعض القصص المترجمة لأنه يؤمن، أي الوالد، أن القراءة فعل شخصي لا يمكن لأحد أن يتدخل فيه أو يجبر عليه. ومن بعيد وقف الأب يتابع انشغال ولده بالمجموع في الثانوية العامة، كغيره من أبناء هذه المرحلة الدراسية، وإعطاء استذكار الدروس الأولوية الأكبر علي أي شيء آخر، كان يرسل للابن بعض الملاحظات بلا ضغط يذكر ومن "بعيد لبعيد". وحينما سافر إبراهيم عبد المجيد لفرنسا لقضاء بعض الشهور آثر أن يصطحب أولاده معه (إياد وزياد ووائل)، رغم علمه بما قد يسببه هذا السفر من إحباط، وهو ما حدث بالفعل، فإياد قارن بالفعل بين دولته وتلك الدولة المتحضرة، وكانت النتيجة مجموع ضعيف في الثانوية العامة، حينها لم يعلق الوالد ولم يهتم كثيرا، فالتعليم في مصر في النهاية يراه بلا طائل. دخل إياد كلية الآداب قسم الوثائق والمكتبات، ومازال والده علي عهده به من عدم التدخل في قراءاته، إلي أن فاجأ الابن والده يوما بسيناريو مكتوب وضعه أمامه علي المكتب وسأله رأيه فيه باعتباره "بتاع واحد صاحبه"، أثني حينها الأب علي السيناريو، وتنبأ لصاحب ابنه المزعوم بمستقبل كبير إذا ما أحسن التعامل مع موهبته، وحينما سكت الأب ونظر لابنه متشككا، قال إياد وهو يداري خجله "هو أنت بس اللي فاكر نفسك بتعرف تكتب"، فأدرك الوالد حينها أن رفض ابنه مصاحبتهم في الخروج والسفر إلي الإسكندرية كان لانقطاعه علي كتابة السيناريو. "مزعلتوش في حياته كلها غير مرة واحدة، ودا من فترة قريبة، لأسباب مش عارفها"، هكذا يقول إبراهيم عبد المجيد، ويحكي كيف أن ابنه يفهم في الحياة أكثر منه، يري الأمور تافهة ووالده يراها عظيمة و"تطلع تافهة فعلا"، يصدق حدس الابن لأن قلبه صافي، كما يراه والده، الذي انخرط غصبا عنه في مؤامرات الوسط الثقافي وتحزباته، مما دفعه للقول "اللي شفته في مصر مش قليل"، لذا لم أعد أقلق عليه من السهر بالخارج، فقد أصبح ابني، كما يقول، يجالس الكتاب والصحفيين. الابن: يراودني الحنين إلي أبي إن أجمل نعم الله علي أني خلقت ابنا لهذا الرجل، صاحب الشخصية التي لم أصادف كثيرا مثلها، وهو ما كان يضعني دائما موضع حسد من أصدقائي، ليس لأنه إبراهيم عبد المجيد الكاتب والأديب المعروف، ولكن لأن كل من عامله من أصدقائي وجد فيه نموذج الأب الذي يتمناه. إذا كانت علاقتي به منذ البداية تتسم بالقرب، فإنها تطورت جدا بعد وفاة أمي، ورغم حالة الفوضي والتشتت التي أعقبت الوفاة، فإن أبي استطاع أن يجعلنا نجتاز تلك المرحلة، مما عمق علاقتنا به وزادها ارتباطا، فتحولت من علاقة أب بأبنائه لعلاقة صداقة حقيقية. لم يتعنت والدي أبدا في أي قرار نتخذه، بل صرنا نستشيره في كل خطوات حياتنا، وقد فعل هو الآخر المثل، حتي قرار زواجه بعد أمي كان جماعيا، وربما أراد الله أن يكافئنا علي تكاتفنا هذا بإرسال هدية إلينا تزيدنا ارتباطا وهي ماما "تيسير سمك" هذه الهبة الجميلة، ولأنه من ذلك النوع الراقي المتفهم لتطورنا الجسدي والعقلي، اتسم بتسامح، وكان هذا التسامح أقوي عقاب لي و لإخوتي، فعندما تخطئ ولا تجد إلا تسامحا، لابد وأنك ستشعر بخجل شديد من نفسك. أما إبراهيم عبد المجيد الكاتب والروائي، فلم ينفصل فكره غير التقليدي أبدا عن طريقة تربيته لنا أو رؤيته الإنسانية للعالم، وكأن فلسفته ونظرته الخاصة للأشياء واحدة سواء فيما يكتبه أو يعيشه، وربما لهذا لم تغضبني شهرته يوما، بل علي العكس كانت مفيدة لي علي كافة المستويات وفتحت لي أبواب كثيرة في حياتي إن لم تكن كلها تقريبا، ولا يمكنني هنا أن أخجل أو أنفي فهذا هو ما حدث بالفعل. أحيانا أفكر وأقول: "لو كنت ابنا لشخص عادي لكانت خطواتي قد تأخرت كثيرا"، لكني أعود لأقول أن تلك الشهرة وضعتني في تحد كبير، تحدي أن أكون وجها مشرفا لأبي، وتحدي أن أكمل المشوار بنفسي وبمجهودي الخاص، طالما أنه وضعني علي بدايته. أحيانا أنظر لأبي فأجدني عاجزا عن إخفاء شعور أقرب إلي الشفقة عليه، فهو، ورغم سنه وتجاربه العديدة، مازال عاجزا عن استيعاب شرور البشر، يتعامل معها بروح طفل يندهش مما يفعله الآخرون، ويظل يبحث عن طريقة يتكيف بها مع الحياة، وهو ما يؤكد لي دوما نقائه. أحيان أخري يراودني حنين جارف إليه، خاصة في أوقات سفره، أو أوقات انشغالي عنه، فتقودني قدماي للعودة والجلوس بجانبه، حتي وإن لم نجد سوي الصمت جليسا.