رئاسة الدولة في مصر تكاد تؤكد يوميا على حسن العلاقة بين مؤسسة الرئاسة الإخوانية وبين المؤسسة العسكرية التابعة لنظام مبارك. المدهش أن رئاسة الدولة تطالب وسائل الإعلام بتوخي الدقة في نقل الحقائق. مثل هذه التصريحات، وبدقة شديدة، تعكس حالة من الخبل والهلع. ولكن إذا أردنا أن نصف تصريحات الرئاسة في مصر بلغة دبلوماسية عاقلة ولغة صحفية وإعلامية محايدة، يمكن أن نقول أن العلاقة متوترة للغاية، والطرفان ينصبان لبعضهما البعض المصايد والأفخاخ. رئاسة الدولة وجماعة الإخوان المسلمين ومكتب الإرشاد تظهر خبثا شديدا في التعامل وتحاول أن تظهر بمظهر الواثق من نفسه عبر التصريحات المثيرة للدهشة والاستغراب والابتسامات المتذاكية. بينما المؤسسة العسكرية وبقية قوى دولة مبارك العميقة تظهر ثقة غير محدودة وضبط للنفس. المصريون الآن مندهشون من القرار الرئاسي بالإفراج عن أعضاء الجماعات الإسلامية وبقية عناصر تيارات الإسلام السياسي المحكومين بالمؤبد والإعدام. وفي الوقت نفسه هناك حالة من البطء المتعمد والتراخي في الإفراج عن رجال الثورة وشبابها. هناك أيضا دهشة حقيقية مما حدث أثناء الثورة وتحديدا في أيامها الأولى من مهاجمة السجون وتهريب عناصر بعينها ظهرت بعد ساعات من عواصم عربية لتدلي بتصريحات وإعلانات ساخنة وشامتة. إضافة إلى اقتحام السجون وقتل الحراس والضباط وتهريب عناصر مصرية محددة. أين ملفات هذه القضايا؟ في الوقت نفسه نرى نشاطا غير مسبوق لعناصر حماس التي استبدلت سوريا وغزة بقطر، حيث تقوم بزيارات مكوكية ومشاركات نضالية في حملات النظافة وإطلاق تصريحات ما أنزل الله بها من سلطان. وتزامنا مع كل ذلك بدأت تصريحات تظهر حول التعاون الأمني بين حكومات مصر وليبيا وتونس.. وأين ملفات القضايا الخاصة بضبطيات السلاح الذي بدأ يدخل إلى مصر؟ وهل هناك معلومات محددة عن التنظيمات الإرهابية المتواجدة في سيناء ونطالع أخبارها من الصحف والكالات الأجنبية؟
إذا توخينا الدقة، كما تنصح مؤسسة الرئاسة في مصر، سنجد أن الجزء الطافي من جبل الجليد يشير إلى شكل من أشكال الحصار الذي تقوم به تيارات الإسلام السياسي ممثلة في رئيس الدولة على محورين:
الأول، حصار المؤسسة العسكرية داخليا بتحرير كل عناصر القوى والتيارات الدينية وتمكين مكتب الإرشاد بالاقتراب من مركز القرار وإطلاق يد الجماعات الدينية في الشارع ووسائل الإعلام، وتمكين طواغيت المال التابعين للجماعة سواء بمشروعات منفردة أو بالمشاركة مع بقايا طواغيت نظام مبارك. ولا يمكن أن نغفل هنا محاولات حصار الشعب والقوى السياسية أيضا بوضع الجميع أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الإخوان أو العسكر.. ما يعني أن التخلص من حكم مبارك وبقايا نظامه ثمنه حكم الإخوان المسلمين والرضوخ تماما لكل نزواتهم السياسية ومغامراتهم الاجتماعية.
والثاني، خارجيا بمغازلة الأنظمة الدينية الجديدة في كل من ليبيا وتونس، سواء بشكل مباشر أو عن طريق وسطاء إقليميين أو دوليين. إضافة إلى الاتفاقات مع الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية. ويمكن أن نلاحظ حالة الارتياح في العلاقة بين مكتب الإرشاد والإدارة الأمريكية واطمئنان مؤسسة الرئاسة في مصر لكل الخطوات الأمريكية والأوروبية تجاه جماعة الإخوان المسلمين على الرغم من أن هناك أنباء تشير إلى أن الكونجرس الأمريكي صادق على قرار بمنع تقديم أي مساعدات أو معونات للجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين. بينما يتصور البعض أن فوز الليبراليين في الانتخابات الليبية هو نهاية المطاف، بينما تؤكد كل المؤشرات الواردة من طرف التيارات الإسلامية هناك عكس ذلك تماما.
هذا الحصار هو أحد أولويات مكتب الإرشاد وجماعة الإخوان المسلمين إلى جوار التصريحات والإعلانات وحملات النظافة والتبرعات وموائد الإفطار ومعالجة كافة القضايا الاجتماعية والاقتصادية بالإكثار من الصلاة والدعاء وذكر الله. هذه الأولوية تشير إلى أنه على الرغم من وصول الإخوان إلى السلطة في مصر، إلا أنهم لا يزالوا يتعاملون بعقلية التنظيمات السرية التي لا يمكنها أن تدير دولة تم تجريفها على مدى 30 عاما ولكنها ما زالت قائمة.
غير أن حصار الإخوان يقابله نوع من أنواع تجفيف المنابع من جانب المؤسسة العسكرية وبقية أجهزة الدولة العميقة. إذ نطالع يوميا في وسائل الإعلام هذا الكم الهائل من الكوارث والاعتداءات على المواطنين وعلى العمال في مصانعهم. بل ووصلت الأمور إلى قتل المواطنين والعمال. هناك أيضا تلك الحملات الأمنية التي تسفر عن ضبط أسلحة ومتفجرات وسرعان ما تختفي أنباؤها من وسائل الإعلام! إذن، قد لا يصبح البرود في العلاقات بين المؤسسة العسكرية والإدارة الأمريكية أمرا مثيرا للدهشة على الرغم من المعونة العسكرية الأمريكية التي لم تنقطع إلى الآن. فمصر أصبحت جزءا من مشروع إقليمي ضخم يجري تدشينه في هدوء شديد وبدماء باردة. وإذا كان هذا المشروع لا يتعارض، على الأقل إلى الآن، مع توجهات الإخوان المسلمين وبقية تيارات الإسلام السياسي، فهو لا يتعارض أيضا مع تاريخ وتركيبة وبنية المؤسسة العسكرية في مصر. أي ببساطة، الموضوع هنا لا يخص لا الوطن ولا المواطن ولا بنية الدولة ولا تحديثها، بل ولا حتى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني. الموضوع هو صراع بين الإخوان المسلمين وبقايا نظام مبارك على السلطة ضمن مشروع كبير يرى الأمريكيون أن الفصيل الأول هو القادر على تحقيقه في مراحله الأولى إلى أن يغير الأمريكيون توجهات المشروع أو يقوموا بنقله إلى مرحلة جديدة.
من الصعب أن نتحدث حاليا عن أي مستقبل للمؤسسة العسكرية في السلطة. ومن الأصعب الحديث عن أي دور سياسي لها، لأن القوى السياسية في داخل المشهد السياسي المصري فقدت ثقتها تماما في تلك المؤسسة التي كان من الممكن أن تلعب دورا تاريخيا في مسار تلك الثورة، ولكنها فضلت السيناريو الأكثر مغامرة وخطورة. وهي الآن لا تعول إلا على الخسائر المتلاحقة والفشل الذريع للإخوان وتخبطهم السياسي والاجتماعي من جهة، وعلى محاولاتها في تجفيف المنابع حول الإخوان من جهة أخرى. ولكن هل من الممكن أن تصل الأمور إلى أن يلجأ الشعب والقوى السياسية إلى المؤسسة العسكرية لإنقاذ مصر من أيدي مكتب الإرشاد والإخوان وبقية تيارات الإسلام السياسي؟ هذا سؤال سابق لأوانه!!!
وإذا توخينا الدقة، كما تنصحنا مؤسسة الرئاسة ومستشاروها والمتحدثون باسمها، يمكن التأكيد على وجود صراع ضار بين الإخوان والمؤسسة العسكرية. لا أحد يعرف، وهذا من باب الدقة، عما يتحدث الرئيس والمشير في لقاءاتهما؟ وماذا يقصد قادة المؤسسة العسكرية من اصطحاب الرئيس يوميا لافتتاح هذا المشروع أو ذاك أو لمباركة خرجي هذه الدفعة من هذه الكلية العسكرية أو تلك. وهل يريدون أن ينقلوا له رسالة محددة خاصة بوضع مصر وببنية الدولة التي لا يمكن مقارنتها بمكتب الإرشاد أو بالجماعة أو قيادتها بعقليه هذا أو تلك؟! لا أحد يعرف أيضا مدى علاقة مكتب الإرشاد وقيادات الجماعة بمؤسسة الرئاسة في دولة مصر، وما هو موقف رئيس دولة مصر من الجماعة ومكتب إرشادها؟
الحديث يدور الآن لا عن تغيير هوية مصر، لأنه كان أولى بالهكسوس والتتار والمغول أن ينجحوا في ذلك. ولكنه يدور تحديدا عن صراع غير صحي بالمرة يهلك فيه المواطنون البسطاء والعمال المصريون، وتظهر فيه على السطح حالة من البلطجة الدينية والعنف غير المبرر لعناصر قد تصبح قريبا محركا لعنف ذي طبيعة خاصة تحت شعارات دينية وعنصرية، وربما تحت شعارات أخرى أخطر، من بينها إنقاذ البلاد والعباد من شر البلطجة الدينية ومحاولات الزج بمصر في مشروعات ستفشل حتما، إن لم يكن بأيدي المصريين أنفسهم وقواهم السياسية، ستفشل بأيدي القوتين المتصارعتين وأصدقائهما الإقليميين والدوليين. إذ أنه لا يصح إلا الصحيح مهما حاصر أحد الأطراف الطرف الثاني، أو قام الطرف الثاني بتجفيف المنابع حول الطرف الأول. فهل يمكن أن نستعد لمثل هذه المرحلة لكي نواجهها ونواجه المخربين من الطرفين بأقل قدر من الخسائر، وبالذات في الأرواح؟!!