كنت في السنة الأولى الإعدادية حين اندلعت حرب أكتوبر 1973، رمضان 1393، ولا زالت صور تلك الأيام الرائعة تتداعى إلى مخيلتي كلما ذكرتها، ولا زلت أطرب ويقشعر بدني كلما استمعت إلى أغنيات تلك الفترة؛ (ماشيين في إيدنا سلاح)، و(أنا على الربابة بغنّي)، و(بسم الله.. الله أكبر)، و(أحلف بسماها وبترابها)، و(الأرض بتتكلم عربي)، و(بالأحضان يا سينا)، و(النجمة قالت للقمر)، والعديد من الأغنيات التي طبعت في ذاكرتنا، وحين نسمعها تتداعى إلى عقولنا ذكريات أيام الانتصار والعبور العظيم، وتحطيم أسطورتي خط بارليف والجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، ومعرض الغنائم، والمشاعر الرائعة التي غمرت حياة المصريين والعرب من حولهم بالنصر المبين.
وكلمات الرئيس السادات في مجلس الشعب بعد الحرب: (لقد تمكنت القوات المسلحة الباسلة من اقتحام مانع قناة السويس الصعب، واجتياح خط بارليف المنيع، وإقامة رؤوس جسور لها على الضفة الشرقية للقناة، بعد أن أفقدت العدو توازنه في ست ساعات)..
وإليك عزيزي بعض المعلومات عن حرب أكتوبر ربما تكون قد غابت عن أذهاننا عبر ثلاثين الأعوام البائدة،إذ اختصر النصر العظيم في ضربة الطيران الأولى:
– قوة الجيش المصري الذي خاض الحرب؛ من الضباط والجنود؛ 300 ألف مقاتل.
– العُدد والعتاد الذي شارك في المعركة كان: 400 طائرة مقاتلة، 140 مروحية، 1200 دبابة، 150 كتيبة صواريخ أرض جو، والكباري العائمة على طول مجرى قناة السويس، والمدفعية وسلاح المهندسين والمشاة الميكانيكية والمدرعات، والقوات البحرية بغواصاتها وفرقاطاتها وسفنها..ووو – قضى نحبه في معارك أكتوبر ما يقارب ال 5000 شهيد.
لنا الحق كل الحق أن نفاخر ونتباهى أننا عشنا تلك الأيام.. ورحم الله شهداءنا وألحقنا بهم في الصالحين، فقد سطروا بدمائهم أعظم معارك التاريخ المصري الحديث، ورحم الله قادة جيوشنا وأسلحتنا، رحم الله الفريق الشاذلي والمشير أحمد إسماعيل، رحم الله أنور السادات وغفر له..
هذا هو العبور الأول. أما العبور الثاني فهو عبور من نوع آخر، ليس عبورا من غرب القناة إلى شرقها، وليس عبورا لخط بارليف الإسرائيلي، وليس عبورا من الهزيمة إلى النصر، إنه عبور شباب مصر للبحر الأبيض المتوسط على ظهور قوارب تهريب المهاجرين من مصر وليبيا، وجميع تلك القوارب كتب على أخشابها ومطاطها: إركب معنا لتموت غرقا !
تُرى.. كيف يشعر الشاب المقبل على عبور البحر بهذه الطريقة القاتلة ؟ ما الذي يمكن أن يكون قد حدث له في مصر ليحاول الخلاص من حياته فيها بأي ثمن؛ حتى لو كان حياته نفسها ؟ هل هي البطالة ؟ هل الشعور بالعجز وانعدام الدور ؟ هل السبب انكسار الإرادة وتدهور أحوال المعيشة ؟ هل هي الحاجة مع إظلام تام وسواد كالح لأي احتمالات لانفراج الأحوال ؟ هل هو اليأس من إصلاح الأحوال في البلاد وتدهورها من سيئ إلى أسوأ ؟ قد تتعدد الأسباب والدوافع لهذا التصرف (المجنون)، وقد يقال فيها الكثير الكثير، ولكن إليك – كما فعلت في العبور الأول – بعض المعلومات عن أحوال شباب مصر، ربما تكون قد غابت عن أذهاننا عبر ثلاثين الأعوام البائدة:
– نسبة البطالة في القوة العاملة المصرية زادت عن 20 ٪ في الإحصاءات الرسمية، والواقع أنها تزيد عن ذلك كثيرا.
– في الشارع المصري نعاين كل خطوة آلاف المتبطلين الذين (يعملون) أعمالا عجيبة، غريبة على المجتمع المصري لم تكن موجودة لا في عهد عبد الناصر أو عهد السادات، ماسح زجاج السيارة في محطة البنزين، من يساعدك في ركن سيارتك في الشارع، ثم يتبع ركوبك بكلماته الذليلة: أي خدمة يا بيه، أو كل سنة وانت طيب، من يتدافعون إليك في المطار ليحملوا عنك حقائبك، كانسو الشوارع ذوي البدل الخضراء أو البرتقالية، بائعو المناديل الورقية ولعب الأطفال في إشارات المرور وعند نقاط ازدحام السيارات على الطريق؛ وما أكثرها، الشحاذون والشحاذات، المتسولون الذين يدفعون على مقعد متحرك رجلا قعيدا مقطوع الساقين، أو طفلا متخلفا، مَن يسمون (الطيارين) الذين يوصلون إليك أي شئ في منزلك (الديليفري) بدءا من المأكولات حتى الأدوية؛ في سابقة لا تحدث في أي بلد، أن توصّل الأدوية إلى المريض بالتليفون !
هؤلاء جميعهم وكثير غيرهم، يعانون المهانة والذل و(كسرة النِفس) أمام ضغط الحاجة، ويجدون أمامهم الفرصة سانحة للعبور مقابل بضعة آلاف من الجنيهات، يحصلون عليها اقتراضا أو بأي طريقة أخرى، ويركبون قوارب الموت غير المجهزة لهذه الرحلة؛ التي تبحر بهم بين أمواج البحر المتوسط المتلاطمة، أياما وليالي ثم تلقي بهم؛ إن وصلت؛ على السواحل الإيطالية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذان عبوران، تختلف ظروفهما ومعطياتهما وتفاصيلهما ونتائجهما وإحساسنا بهما.. نضعهما أمام الدكتور مرسي الرئيس المنتخب، والدكتور قنديل رئيس الوزراء المكلف، في الذكرى الأربعين لعبور رمضان المنتصر، وقلوبنا ملؤها الدعاء لهما بالتوفيق والسداد لما يحبه الله تعالى ويرضاه.. واسلمي يا مصر.