علي مدار الأيام الماضية وحتي قبل وصوله إلي القاهرة كان الدكتور محمد البرادعي هو نجم الشباك الأول تتابعه الكاميرات أينما ذهب وتبرز تصريحاته الصحف في صدر صفحاتها الأولي وتتسابق للقائه وتغطية نشاطه القنوات الفضائية، وبمنتهي الاهتمام تابع الناس كل سطر أو فقرة يذكر فيها اسم «البرادعي» وسط حالة هائلة من المشاعر المختلفة التي انتابت الجميع، حالة من الأمل والحلم لدي أغلبية المصريين وأخري من القلق والشك سيطرت علي الأقلية المتحكمة كل بحسب موقعه، وأدرك الجميع أن العجلة قد دارت والمياه الراكدة تحركت، لقد بدأ الرجل حديثه دون مواربة أو مواءمات سياسية وهو ما أقنع الناس بجديته وإصراره، ثم كان الإعلان عن تكوين الجمعية الوطنية من أجل التغيير عقب لقائه عدداً من رموز القوي الوطنية كأولي الخطوات التنفيذية في هذا الإطار، ولكن السؤال الذي يبقي، ما الخطوة التالية؟ فالجمعية الوطنية من أجل التغيير ستبقي كغيرها من الحركات والجبهات التي نشأت للهدف نفسه ولكنها لم تثمر ولم تصل إلي شيء ما لم تنجح في الالتحام بالجماهير ويشعر بها ويشترك معها المواطن في كل قري ونجوع مصر، فالشعب هو رهان البرادعي الحقيقي فلا إصلاح أو تغيير دونه .. هو هدف عملية الإصلاح وأداتها في الوقت نفسه .. هو الدافع والمنفذ للتغيير وهو أيضا من يجني ثماره، وعندما يراهن البرادعي علي الشعب فهو بالقطع الرهان الصحيح ولكنه قد يصبح رهانا محفوفا بالمخاطر حين يتحدث الناس عن البرادعي باعتباره المنقذ والمهدي المنتظر وحين يقفزون علي الأحداث ويرون فيه رئيس مصر المقبل ويتصورونه البطل الأسطوري القادر وحده علي فعل كل شيء أما هم فعليهم فقط الاستعداد ليوم الحصاد، وهي حالة تعكس تعجل النتائج كرد فعل للحرمان الديمقراطي علي مدي نصف قرن وترجمة لموروثات الخوف والقهر التي تسيطر علي البسطاء والتي تعفي صاحبها من أداء أي واجب أو القيام بأي دور، أما أنت يا برادعي فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، وقد بدا لي هذا واضحا من خلال تعليقات القراء علي المقالات التي تناولت القضية بنوع من الهدوء والموضوعية بعيدا عن مغازلة أوجاع القارئ والعزف علي آلامه وهي تعليقات تتباين بشدة ما بين مدح الكاتب ووصفه بالعبقرية وبين قدحه واتهامه بالعمالة للحزب الوطني ليس لاختلاف الرأي بينهما فالقارئ والكاتب يقفان في الخندق نفسه وينشدان الهدف نفسه ولكن لأن كثيرا من القراء يبحثون بين السطور عن مظاهرة بالكلمات وانتصار بالألفاظ يثلج صدورهم وينوب عنهم في أداء أدوارهم. إنني لن أملّ من التأكيد علي أنه من الخطأ والخطر التعامل مع البرادعي باعتباره رئيسا للجمهورية أو حتي مرشحا لها فليس هذا سوي من قبيل الاحتمالات التي تتزايد أحيانا وتتضاءل كثيرا، أما الحقيقة المؤكدة فهي أنه قد عاد ليقود عملية التغيير والإصلاح الدستوري والسياسي الذي تحلم به مصر والذي يقود إلي الإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية فإذا كان رهاننا هو "البرادعي رئيسا" فمن الممكن أن نخسر الرهان وأخشي أن يؤدي ذلك إلي مزيد من اليأس والإحباط لدي الجماهير وفقد الأمل نهائيا في التقدم إلي الأمام، أما إذا كان هدفنا الأول والأولي بالاهتمام هو الإصلاح الدستوري الذي يتيح للبرادعي ولكثيرين غيره أن يتقدموا للترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ظل انتخابات نزيهة وفرص متكافئة للجميع فسنكون قد نجحنا حتي لو لم يصبح البرادعي رئيسنا المنتظر فالتغيير عملية دائمة ومستمرة تبدأ بالبرادعي ولا تنتهي دونه، وقد أشار البرادعي نفسه إلي ذلك في كل أحاديثه محددا أولوياته في الانتقال من الشرعية الثورية إلي الشرعية الدستورية. إن نظرة عابرة إلي الواقع الذي نعيشه تشير بقوة إلي معاناة الشعب وسيطرة حلم التغيير عليه، ولكنها تشير أيضا إلي عزوفه الدائم عن المشاركة بعد أن فقد الأمل واستبد به اليأس وقنع باستبعاده التام من العملية السياسية علي مدي نصف قرن ورضي بالفصل الكامل بين أوضاعه السياسية ولقمة عيشه وأنبوبة بوتاجازه فاستعذب الألم ورضي بالمرض رافضا تناول الدواء مدعيا أنه مر المذاق، وإذا كان البرادعي هو الطبيب الذي جاء ليضع روشتة العلاج لمرض اتفق في تشخيصه كل الأطباء فإنه يبقي علي المريض تعاطي الدواء فلن يشفي أبدا مريض إذا ما تناول الطبيب الدواء.