الثقافة.. في الموسوعة العربية الميسرة هي أسلوب الحياة السائد في أي مجتمع بشري، والاستخدام العلمي للكلمة لا يتضمن تقدم المعرفة، والثقافة هي عادات الجماعة وأفكارها واتجاهاتها، تُستمَد من التاريخ وتنتقل تراثًا اجتماعياً إلي الأجيال المتعاقبة. أما عالم الأنثروبولوجيا إدوارد بي تيلور، فيعرّف الثقافة بأنها مجموع ما يكتسبه الفرد من معرفة ومعتقدات وفنون وأخلاق وقوانين وتعاملات وقدرات وعادات، كعضو في مجتمع ما عبْر سنين عمره كلها. ولكن.. ومع هذه التعريفات الشاملة للثقافة؛ فقد أصبح تعريف الإنسان المثقف في العالم العربي، أنه من كان علي دراية بالفنون والموسيقي والشعر، وله اطّلاع علي كتب الفلسفة والآداب والروايات والعلوم الإنسانية، وحبذا لو كانت غير عربية، وهذا التعريف للمثقف في مجتمعنا المصري خاصة، وفي المجتمعات العربية عامة، قد خرج بالمواطن العادي من دائرة الثقافة، فأصبح أكثر من نصف المجتمع غير مثقفين لأنهم ببساطة أميون، والنصف الآخر لا ينتمي معظمهم من قريب أو من بعيد للمعني المصري للثقافة، وهنا نستطيع أن ندرك حجم الكارثة التي حلت بالمجتمع المصري ونراها ونعاينها كل يوم وكل ساعة، بل.. كل لحظة، فعلي كل المستويات في المجتمع المصري هناك تدهور وانحدار؛ بل انعدام في الثقافة بتعريفها الحقيقي الشامل، أي في أنماط السلوك المكتسب، والأمثلة علي ذلك لا تنتهي. السائر في الشوارع المصرية تري عيناه كل لحظة ألوانا من التلوّث، مخالفات المرور التي يتقنها السائرون والسائقون، ويتفننون في التهرب من العقاب إن وجد، السيارات التي تسير بلا لوحات رقمية، والسيارات المخالفة وينسب أصحابها أنفسهم لجهاز الشرطة أو النيابة والقضاء، ولا أحد بالطبع يجرؤ علي محاسبتهم أو سؤالهم عن تراخيصهم، الضوضاء التي تصدر من آلات التنبيه في كل لحظة بداعٍ أو بلا داعي، أصوات الباعة الجائلين يعلنون عن بضاعاتهم بالميكروفونات، أصوات السباب واللعنات من سائقي السيارات والميكروباص والأتوبيسات، عدد لا يحصي من السيارات ومعظم الموتوسيكلات والأتوبيسات، تجوب الشوارع تنفث دخانها وسموم عوادمها في هواء المدينة، ألوان المباني علي الطريق الدائري، وفي المناطق العشوائية والشعبية، وطريقة تصميم هذه المباني تؤذي العين، وتنفي عمن بناها أي ثقافة أو ذوق فني، مع أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون المساكن قليلة التكاليف مع كونها جميلة، وحدث ولا حرج عن البصق علي قارعة الطريق الذي أصبح عادة، تميز بها المصريون عمن سواهم، الأغاني الهابطة وأصواتها المنكرة، والفيديو كليب والأفلام السينمائية، والمسرحيات التي لا هدف لها إلا انتزاع الضحك من أفواه المتفرجين انتزاعا بالإفيهات الجنسية البذيئة، وبرامج التليفزيون المحلية والفضائية الترفيهية التافهة، كلها تحاصر الإنسان المصري وتخنق أنفاسه. وغير ذلك كثير من مظاهر تلوث السمع و البصر والهواء والأخلاق في الشارع المصري، وتعدد الأمثلة إن دل؛ فإنما يدل علي تضاؤل قيمة الثقافة بمعناها الشامل، وانعدامها في كثير من الأحيان من نفوس المصريين، فمن المسئول؟ ما دور وزارة الثقافة في محاولة إعادة زرع القيم التي ضاعت؟ أم إن قيم وزارة الثقافة نفسها قد ضاعت؟ هل دور وزارة الثقافة هو رعاية الآثار وإخراجها إلي أوروبا وأمريكا واليابان، في معارض لا تعود منها أبداً؟ هل دورها هو القيام علي الفنون التشكيلية والفنون التمثيلية والموسيقية؟ هل يقتصر دورها علي رعاية الفنون الشعبية، والمعارض الفنية، ونشر الكتب، والقيام بالاحتفالات في قصور الثقافة لعرض الأعمال الفنية، وتدعو ذلك كله بالثقافة الجماهيرية؟ إنني أتمني على الرئيس الدكتور محمد مرسي، أن يقوم عند تشكيل الحكومة الجديدة؛ بتغيير اختصاصات الوزارات، فوزارة الثقافة بهيكلها الحالي، تدمج في وزارة الإعلام، وتتولى وزارة السياحة مهمة رعاية الآثار والمتاحف، ثم تستحدث وزارة جديدة علي غرار وزارة السد العالي، يكون اسمها (وزارة الثقافة الشعبية ومحو الأمية)، تكون مهمتها الأساسية تحقيق ما لم تشغل به نفسها وزارات الثقافة السابقة كلها؛ تثقيف الشعب المصري، أي تعليمه أنماط السلوك الحضاري، والالتزام بالقواعد والأنظمة واحترام القوانين، ومحو أميته في مدة محددة؛ ثلاث سنوات مثلا. وبهذا الاقتراح؛ أحاول أن أسترعي الانتباه إلي حقائق غابت بالفعل عنا: أولها: إن ضعف الانتماء والتراخي في أداء المهام، أصبحا سمة من سمات الإنسان المصري مفتقد الثقافة بمعناها الأساسي، والدليل علي هذا الضعف الخطير والتراخي المهين، إن المصري تبرز كفاءته ويسطع نجمه دائما خارج بلده. ثانيها: انتشار الِرشوة والفساد، والازدياد المطرد في القضايا الأخلاقية والجرائم التي لم نكن نسمع عنها من قبل في مصر، هي النتاج الطبيعي لنقص الثقافة بمعناها الأساسي. ثالثها: حرص النظام الحاكم طيلة ستين الأعوام الماضية على بقاء نسبة الأمية مرتفعة، ولم يحاول القضاء عليها، لأن الشعب الأمي يسهل قياده، فيمشي كالقطيع تسوقه عصا الراعي الأمنية الغليظة. رابعها: استحداث وزارة للثقافة الشعبية ومحو الأمية سيستدعي بالطبع توظيف المتعلمين العاطلين، واستخدام طاقاتهم المهملة المهدرة، ليقوموا بهذه المهمة الوطنية الجليلة، في كل محافظات ومدن وقرى مصر؛ كلٌ في مكانه، وبخاصة بانتهاز فرصة تجمع عدد كبير من الأميين في فترة التجنيد في الجيش أو الشرطة. وأخيرا: لأن الثورة المصرية هي ثورة التغيير؛ فيجب أن تكون القرارات الرئاسية داعية إلى التغيير ساعية إليه، وأول ما نرجو الرئيس الدكتور محمد مرسي أن يتخذ في الوزارة الجديدة قرارات تغير مفهوم الثقافة المشوه، الذي تبناه نظام الاستبداد في العهد البائد، وإلا فسيكون الإنجاز دوما كأنه حرث في البحر، أو كتابة على الماء، لأن الشعب الأمي غير المثقف لا يلتزم بقانون، ولا يحدو تصرفات أبنائه انتماء، ولا أمل في أن ينجز ما تنصلح به أحواله.. إسلمي يا مصر.