لا شك أن جميع من تابع سير العملية الإنتخابية الأخيرة قد ساورته بعض المخاوف فى لحظة من اللحظات عندما أصبح يقيناً أن الدكتور محمد مرسى بات هو الأقرب لحسم السباق الرئاسى لصالحه، وهى المخاوف التى طالما ما دعمها وأثقلها فى نفوس غالبية المتابعين للشأن العام تصريحات وتصرفات أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وممثليهم فى كافة المناسبات والمواقف العصيبة التى مرت بها البلاد على مدار المرحلة الإنتقالية تجاه القوى السياسية والثورية الأخرى . والحقيقة أن تلك التصرفات التى صدرت عن الجماعة والتى إستهدفت فى أغلبها تحقيق مصلحة التيار الإسلامى على حساب المصلحة العامة للثورة ولإستمرارها.. ربما تكون قد نبعت فى الأصل من نقص فى الخبرة والممارسة والتى رأيناها جميعا تتجلى فى أداء نواب مجلس الشعب عن التيار الإسلامى – على سبيل المثال – أو عند ظهور أحدهم على شاشات الفضائيات لكى يدلى بدلوه تجاه إحدى القضايا الشائكة، ولكننا لا يمكن أن نستبعد أيضا أن ذلك النقص فى التجربة والخبرة قد أصاب على الجانب الأخر قوى الثورة من الشباب متمثلاً فى تشرذمهم وعزوفهم عن الإتحاد فى كيان واحد قوى يستطيع تمثيلهم فى تقديم مطالبهم إلى المجلس العسكرى وإلى غيره من سلطات الدولة المختلفة .
إلا أنه فى نهاية الأمر تظل المقارنة بين الأسباب والدوافع التى أدت إلى تلك الإخفاقات التى وقت فيها الجماعة وحزبها والنتائج المترتبة عليها، وبين تلك السقطات التى خرجت من المعسكر الثورى والنتائج المترتبة عليها.. تظل تلك المقارنة بعيدة تماماً عن المنطق، لأنه فى حالة التيارات الثورية فإن الإخفاقات التى وقعت فيها تلك التيارات هى نتاج طبيعى – كما ذكرنا انفاً – لعدم الخبرة والتسرع وغياب الإدراك الكافى لمتطلبات المرحلة وما تحتاجه من تعاون وتكاتف لعبورها، أى أنها تتلخص فى النهاية فى أخطاء إجرائية مهنية يسهل تداركها والرجوع عنها، أما فى حالة الإخوان المسلمين فتلك الأخطاء الكبيرة الناتجة عن قراراتهم ومواقفهم التى إنحازوا لها والتى كانت سبباً فى تعطيل مسار الثورة فى كثير من الأحيان تنبع فى الأصل من مرجعية دينية منغلقة وما بنى عليها من هيكل تنظيمى محافظ يقوم بالأساس على السمع والطاعة، ومن عقيدة سياسية تؤمن بمشروع معين قد يؤدى تطبيقه بهذه الطريقة وإستناداً إلى العوامل السابقة فى إحداث حالة من الإستقطاب العام التى لن تكون هى الأفضل للبلاد خلال المرحلة المقبلة على الإطلاق .
ومن هنا ربما يكون علينا أن نوضح أن الطرح السابق قد يكون هو الرؤية التى كانت ربما – ومازالت – تسيطر على الكثير من دعاة الدولة المدنية ومن أنصار الديمقراطية وداعميها، أما الأن وبعد ما شهدناه بالأمس أثناء وبعد إلقاء الرئيس محمد مرسى لخطابه فى ميدان التحرير من الإنطباعات وردود الأفعال التى تركها الخطاب عند كلاً من الجماهير العادية وأيضا النخبة.. نستطيع أن نؤكد أن وصول الجماعة للحكم قد يكون هو السبب الرئيسى فى تغيير العقيدة السياسية والحزبية، وكذلك فى إعادة الهيكلة التنظيمية والمراجعة الفكرية للجماعة نحو مزيد من الإنفتاح على القوى والتيارات الأخرى، ونحو مزيد من الوسطية والإعتدال فى طرح معتقداتهم وفى تعاملهم مع ما يواجههم ويواجه البلاد من تحديات .
فالممثل المسرحى – على سبيل المثال – عادة ما يظل عاكفاً على محاولات إخراج أفضل ما لديه من مواهب أثناء أداءه للحصص التدريبية – البروفه – قبل الخروج إلى المسرح ومواجهة الجماهير، إلا أن ذلك الأفضل لا يخرج فعلياً إلا عند وقوفه – أى الممثل – بالفعل على خشبة المسرح فيما يسميه مخرجو المسرح " حالة العرض " التى تسيطر على الممثلين حينها .
هذا – بالضبط – ما حدث للجماعة، فإذا ما تمت عملية تتبع لأداء الجماعة عبر تاريخها الطويل منذ نشأتها فى عشرينيات القرن الماضى حتى تنحى الرئيس المخلوع عقب إندلاع الثورة سوف يظهر أن أداء الجماعة - منذ أن أصبحت تنظيم قوى يعتد به مع أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات – قد إتسم بالمحافظة التى مالت فى أحيان كثيرة إلى إستخدام العنف والإغتيالات كوسيلة للتعبير عن رفض بعض الأفكار والواقف ولتحقيق بضعة أهداف ومصالح ضيقة، وصولاً إلى أعلى درجات الإنغلاق والشمولية فى أواخر الخمسينيات وعلى مدار الستينيات وخاصة مع ظهور الشيخ سيد قطب وأفكاره بقوة على الساحة السياسية كداعية وسياسى فى ذات الوقت . منذ بداية الثمانينيات – أى بعد الإنتهاء من عملية إعادة بناء التنظيم مرة أخرى – إختارت الجماعة أن تسلك مسلكاً أخر يعتمد على الديمقراطية كوسيلة سلمية للوصول إلى أهدافها بدلاً من العنف الذى إكتشف الإخوان أنه لن يؤدى فى النهاية إلى تحقيق أى شىء، وهو التوجه الذى إختاروا أن يحافظوا عليه طوال فترة التسعينيات وما صاحبها من موجات للعنف إجتاحت مصر فى هذه الأثناء .
كذلك فى أعقاب قيام الثورة جاء أداء جماعة الإخوان ليعبر عن مرة أخرى عن شمولية التظيم وإنغلاقه على نفسه وسعيه – فقط – نحو تحقيق مصالحه.. بداية من حالة الإستقطاب الدينى التى صاحبت الإستفتاء على الإعلان الدستورى فى شهر مارس من عام 2011 والتى كانوا السبب الرئيسى فى خلقها، مروراً برفضهم القاطع للتأكيد على مدنية الدولة التى وردت فى وثيقة على السلمى فى نوفمبر من نفس العام، وإنتهاءاً بأداءهم البرلمانى الذى لم يأت على قدر التوقعات ولم يرتق إلى مستوى الأحداث التى عاصرها البرلمان، أضف إلى كل ذلك تخليهم عن الثوار وكيل الإتهامات لهم سواء فى أحداث محمد محمود أو المجمع العلمى أو مجلس الوزراء...
كل ذلك نجده يتغير بوضوح الأن بعد نجاحهم فى الوصول إلى رأس السلطة وخاصة فى تأكيدات الرئيس محمد مرسى على تمسكه بمدنية الدولة وتشجيعه للفن والإبداع، وإطلاقه الحريات العامة والخاصة وإختياره لنائب قبطى ونائبة .
هذا التطور الملحوظ ربما لن يقف عند التصريحات فقط – وهو ما نتمناه جميعاً – بل قد يمتد إلى ممارسات فعلية على الأرض، وهو ما قد بات يمثل تحد قريب المدى من المنتظر أن تتبلور نتائجه فى التشكيل الذى سوف يخرج به الفريق الرئاسى والحكومة فى الأيام القليلة القادمة، ولكن يبقى التحدى الأصعب والأهم هو مدى تأثير هذا الإنفتاح الذى شهدناه على مدار الإسبوع الماضى بطريقة مباشرة على الشكل العام للدستور الجديد والمواد التى سوف يحتوى عليها .
نعم.. قد نختلف إختلافا حاداً – وسنظل – مع أفكار جماعة الإخوان المسلمين ومعتقداتهم السياسية، ولكن الإنصاف يقتدى منا أن نتريث وننتظر عسى الله أن يجعل فى الأيام المقبلة - على أيديهم - خيراً كثيراً .