هل من الممكن أن تُصدق أن فاروق الفيشاوى يؤدى دور شاب يافع فى الخامسة أو السادسة والعشرين من عمره على أكثر تقدير..؟ بلاش دى، هل من الممكن أن تصدق أن إيمان البحر درويش سوف يؤدى دور جده سيد درويش، فى نفس المرحلة العمرية؟! أنت مثلى، من المؤكد أنك لن تصدق، ولكن عليك أن تُصدق أن المخرج عمر عبد العزيز يصدق، بل هو بدأ بالفعل تصوير ما يصدقه فى مسلسل «أهل الهوى».
أعلم جيدا مدى إخلاص المؤلف الكبير كاتب السيناريو محفوظ عبد الرحمن فى رصده الدرامى لمصر، وأتابع شغفه ودأبه فى التقاط التفاصيل، فهو لا يُقدم فى أعماله الدرامية حدوتة، ولكن زمنا وحياة وإيقاعا ورائحة.. مثلا «بوابة الحلوانى» واحدة من رصيدنا الثقافى التى جمعت بين محفوظ والمخرج الراحل إبراهيم الصحن فى مطلع التسعينيات، ترى فيها كل ذلك، لأن نبض الزمن ينضح فى أعماله، وهو الذى منح مسلسل «أم كلثوم» الذى صاغه بأستاذية، كل هذا الوهج والعمق، وأخرجته إنعام محمد على، بتفهم وإبداع، فصار وكأنه الواقع الذى نعود إليه كلما اشتقنا إلى عصر أم كلثوم.
القاعدة النقدية هى أنك لا يجوز أن تتناول عملا فنيا قبل أن تراه على الشاشة، ولكننا هنا لا نتحدث عن ممثل خاصمت ملامحُه الشكلية الشخصيةَ الدرامية، ولكننا نتوقف أمام منطق لا يحتمل تعدد وجهات النظر ولا يخضع لقراءة نسبية تختلف من شخص إلى آخر.
فاروق الفيشاوى هو واحد من الأسماء التى كان من الممكن أن تحتل مكانة أكبر بكثير مما وصل إليه، لو أنه حافظ على لياقته الإبداعية، ولكنه أسرف على نفسه، وكان الزمن أيضا قاسيا عليه، فأصبحت ملامحه تتجاوز حتى عمره الحقيقى وترهّل إيقاعه فى الأداء، فكيف بعد ذلك من الممكن أن تصدق أنه يؤدى دور شاب لم يبلغ الثلاثين، أليس ابنه أحمد الفيشاوى هو المناسب للدور؟ ربما كانت حالة إيمان بالقياس إلى فاروق أفضل قليلا، إلا أنه فى كل الأحوال لا يمكن أن يصبح أيضا هو الشاب الذى نُصدق أنه لم يكمل بعد العقد الثالث من عمره.
الحقيقة أن هذا المسلسل لاقى حظا عاثرا، فلقد كان مدرجا فى الخطة قبل ثورة 25 يناير العظيمة ورشح لإخراجه الأردنى عباس أرناؤوط، وهو واحد من المخرجين الذين يربطهم مع محفوظ عبد الرحمن نوع من التوافق الفنى. الاثنان على موجة إبداعية واحدة، قدَّما أكثر من مسلسل عربى ناجح مثل «ليلة سقوط غرناطة»، ورشح عباس تيم حسن، لأداء دور بيرم التونسى ولكن بعد الثورة رفع عدد من المخرجين والفنانين شعار «جحا أولى بلحم طوره».. ذهبوا إلى المسؤول الذى عينه المجلس العسكرى لإدارة شؤون «ماسبيرو» فى الأيام الأولى للثورة اللواء طارق المهدى، وقالوا له «اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع».. اللواء لا علاقة له بالدراما، ولا يدرك ما الذى يعنيه سياسيا أن تغلق مصر الباب أمام كل من هو عربى، وبالفعل تم إيقاف التعاقد مع أرناؤوط وتيم، وأُسند المسلسل إلى إسماعيل عبد الحافظ، الذى رشح توفيق عبد الحميد، ولكن إسماعيل وجد أمامه مسلسلا آخر، وعلى الفور اتجه إليه، وهكذا وصل المسلسل إلى عمر عبد العزيز الذى اكتشف أن صديقه فاروق لا يعمل فى رمضان، فأسند إليه دور بيرم التونسى، رغم أن المسلسل يتناول فقط المرحلة الزمنية من سنة 17 إلى 23 مطلع القرن العشرين فى عز شباب بيرم ودرويش!!
هل الممثل من الممكن أن يتقمص أى دور؟ الحقيقة أن هناك ملامح شكلية ينبغى أن تُراعى.. وهو ما يعرفه كل طلبة سنة أولى فى معهدى المسرح والسينما، فلا يوجد أى مبرر درامى من الممكن أن يُقنع المتفرج بأنه بصدد فنانين يؤدون شخصيات، عمرهم الزمنى يتجاوز ضعف عمرها الدرامى، ولا يمكن لأعظم فنان مكياج فى العالم أن يفعل شيئا.
الدولة هى التى تنتج المسلسل من خلال قطاع الإنتاج فى التليفزيون المصرى، ومن المؤكد أنها كانت وستظل هى المكان الملائم للقفز على المنطق.. أشفق على دراما عوّدنا كاتبنا الكبير على أن تكون دوما رائعة وموحية، أشفق عليها عندما تتدخل عوامل الصداقة، وربما الاستسهال وربما أشياء أخرى.. فما ذنب «أهل الهوى» فى «الهوى»؟!