من بين الأشياء الكثيرة التي نفتقدها، فإننا نفتقد ثقافةَ النقد وتقبله والقبول به أكثر من أي شيء آخر، حتى وإن كان هذا النقد نزيهًا ومنصفًا وموضوعيًّا. وهذا لا يقتصر على فريقٍ دون فريق، أو على طيفٍ بعينِه من الأطياف التي تزدحم بها حياتنا الفكرية والسياسية اليوم دون الآخر، بل هو أمرٌ يشبه الثقافةَ العامة في مجتمعنا، ويكاد يطال جميع الأطراف من دون استثناءٍ تقريبًا. ثم إنك إذا كنت محسوبًا على طرفٍ معينٍ فأنت ملزَمٌ بتوجيه نقدك إلى الطرف الآخر، وكلما أمعنتَ في ذلك وأكثَرتَ منه كلما صارت لك المنْزلةُ والوجاهة بين المنتمين إلى التيار نفسه، أما إذا حاولت ممارسة النقد الذاتي، ومراجعة ما قد يكون من قبيل المسلَّمات عند البعض، وهو ليس كذلك، فسرعان ما تُشن عليك الحرب غير المقدسة التي تستخدم فيها أعتى أسلحة الاتهام والتجريح. لقد كانت حجة كثيرٍ من المنتمين إلى التيار الإسلامي، وقادتهم على وجه الخصوص، في رفض تأييد مرشحٍ كحازم أبو إسماعيل (قبل استبعاده) هو أنه يشكل تهديدًا للمشروع الإسلامي الذي ينادون به ويدعون إليه، لأن وجود رئيسٍ ذي توجه إسلامي في هذه المرحلة كفيلٌ باستعداء الداخل والخارج علينا في مرحلةٍ نحن فيها بالفعل ضعفاء ومهلهلون من كلِّ وجه، مما سيؤدي إلى أزمات تلو أزماتٍ تؤدي إلى نقمة شعبية على المشروع الإسلامي نفسه، وهو ما سيهدد وجودَه وبقاءَه.
هذه كانت حجتهم، ونحن لا نُنازِع في هذه المقدمة، فنحن بالفعل في غايةٍ من الضعف والتأخر عن منْزلتنا المفترضة بين الأمم من كلِّ الوجوه تقريبًا، ومجرد زيارة عابرة لأيٍّ منا إلى الخارج تُثبت ذلك بشكلٍ واضح ومؤكد. بل من المعلوم أن مصر بحكم موقعها وتأثيرها ونفوذها وطاقاتها الكامنة لا يُراد لها الاستقلال الحقيقي في إرادتها وقرارها ومصيرها، ولكن يراد لها أن تظل أسيرةً لقيود التبعية الاقتصادية والسياسية والفكرية والعلمية وغيرها، وأن لا يكون لها في يومٍ من الأيام مشروعٌ وطني قادر على تحقيق نهضتها وتعويض ما فات من تقهقرها وتخلفها عن ركب القوة والتقدم والازدهار، سواء كان هذا المشروع الوطني ذا توجه إسلامي صريح، أو كان غير ذلك.
ولكن كل ما سبق هو نصف الحقيقة فقط إذا ذُكر بمفرده، فهذا الاستعداء الداخلي والخارجي لن يحدث لأن هذا الرئيس سيكون (ملتحيًا) أو (شيخًا)، بل لأنه كان سيتخذ خطواتٍ عمليةً وجادةً نحو تحكيم الشريعة كما قال بغاية الوضوح، حتى وإن كان ذلك بصورة متدرجةٍ وهادئة، كما كان ينادي بإسلامية الدولة كما يراها، وهو الأمر الذي كان سيثير تحفظاتٍ لا حصرَ لها داخليا وخارجيا، تحفظاتٍ ينتج عنها خصوماتٌ وعداواتٌ لا تحتملها البلاد في المرحلة الحالية، وهو ما قد يكون صحيحًا كما أسلفت؛ فإذا كان هذا هو الواقع، وإذا كان هؤلاء يعلمون هذا، ويعلمون أنهم يتكلمون عن مشروع إسلامي غير ممكن التطبيق من وجهة نظرهم هم، وليس نحن، ويعلمون أنهم لم يدرسوا هذا المشروعَ الذي يلهجون بذكره من أبعاده كافة، ولم يقدموا حلولاً وإجابات على إشكالاتٍ كثيرةٍ تتعلق بالنظام الاقتصادي والنظام القضائي القائم في البلاد على سبيل المثال لا الحصر، وأعني هنا الحلول والإجابات العلمية والمدروسة، وليس مجرد كلامٍ للاستهلاك المحلي على شاشات الفضائيات وأوراق الصحف، فلا يملكون حيال ذلك سوى التنازل عن أشياء من الشرع، وإرجاءِ أشياء أخرى لأنها غير ممكنةٍ وغير قابلةٍ للتطبيق حاليًا من وجهة نظرهم أيضًا، وإذا كانوا يعلمون أن السلطة الحاكمة في البلاد التي بيدها القوة الحقيقية لن تسمح بشيءٍ من ذلك من الأصل، ولن تدع أحدًا يقوم بذلك من الأساس؛ إذا كانوا يعلمون هذا كلَّه وغيرَه، فلماذا قالوا للناس إن الموافقة على التعديلات الدستورية هي من أجل الشرع؟ ولماذا قالوا للناس إن عليهم أن ينتخبوا المرشحين (الإسلاميين) في الانتخابات البرلمانية من أجل الشرع، ولكي يقوموا بكتابة دستور (إسلامي) تُفعَّل فيه المادة الثانية كما قالوا؟ ولماذا يحشدون الناس خلفهم إلى يومنا هذا تحت هذه الذرائع وهذه الدعاوى؟ ولماذا يهاجمون غيرهم لأنهم لا ينادون بالمشروع الإسلامي ولا ينتمون إليه كما يقولون، بينما يعلمون هُم أو صاروا يعلمون الآن أن هذا المشروع لن يعدو مجرد خيالاتٍ في أذهان أصحابه في المرحلة الحالية والقريبة المقبلة؟
إن ذلك إما أن يكون بحُسن نيةٍ وصدقِ طويَّة، وهذا ما لا أشك أنه حال كثيرين، أو برغبةٍ في استغلاله من أجل تحقيق مكاسب سياسية لا علاقة لها بالشرع من حيث المبدأ، وهو ما لا أشك أنه حال البعض أيضًا. وهاهنا احتمالان آخَران: إما إنهم كانوا يعتقدون إمكانَ تحقيق ذلك بالفعل في مرحلةٍ من المراحل، ثم اتضح لهم عكس ذلك، وإما إنهم لا يزالون يصدقون في إمكان ذلك وواقعية تنفيذه، ويكونون بذلك واهمين وغير مدركين لحقائق الأمور، وفي الحالتين جميعًا لا يعني ذلك سوى أن عليهم مراجعة طرحهم وخطابهم، والتوقف عن التلويح بمصطلح (المشروع الإسلامي) وإشهاره كسلاحٍ في وجه من يعارضهم، أو لتسويغ الأخطاء والمواقف الهزيلة والمتخاذلة وتبريرها، والامتناع عن تصنيف الناس بناءً عليه، لأنهم لا يختلفون عن غيرهم في هذه النقطة تحديدًا في واقع الحال.
قلت من قبل، ولا أزال أقول: إن هناك خللاً واضحًا في فهم مسمى الشرع ومصطلحه، يلتقي فيه كثيرٌ من الإسلاميين مع كثيرٍ من العلمانيين من حيث لا يشعرون، حيث يظنون أن هذا المصطلح لا يتناول إلا جوانب بعينها دون غيرها، ولا يدركون أن العدل، والكرامة، والعلم، والتقدم، والثقافة، والمساواة، والعدالة الاجتماعية، والحفاظ على الحقوق، والقضاء على الفساد في شتى صوره - وغير ذلك - هذه كلها من معاني الشرع وأركانه، نبَّه عليها الشرع وأرشد إليها، وهي من أسس الدين وركائزه، وبذلك فإن هذه الثورة لم تقم من أجل (الدنيا) ومن أجل (البطون) كما كان بعضهم يزعم، لأن هذه الأمور هي من أمر الدين بالفعل لا من أمر الدنيا، ولذلك فإننا إذا شَرَعنا في بناء الدولة التي تتحقق فيها هذه المعاني بشكلٍ حقيقي وصادق فسنكون بذلك قد نجحنا في وضع أقدامنا على الطريق الصحيح، ووَضَعنا اللبنةَ الأولى في قيام النموذج الإسلامي الصحيح، سواءٌ وافق فهمَكم أو فهمَ غيركم، لأن الشريعة بالمعنى الذي تريدون لا يمكن أن تكون عُرضةً لصناديق الانتخابات وأهواء الناخبين الذين يسهل التأثير فيهم وتغيير إرادتهم كما هو الحال في بلادنا، وهي أكبر وأجَلُّ من أن تكون مجرد برنامج انتخابي لهذا الحزب أو لهذا الشخص أو ذاك، لكنها منحة ربانية لا تتحقق في مجتمع فقير ومريض وجاهل ومتزعزع الأركان، ينخر فيه الفساد والاستبداد جراء سنواتٍ طوالٍ من القهر والظلم والإفساد المتعمد. وهذا لا يسمى تدرجًا في تطبيق الشريعة، لكنه هو الشريعة نفسها، بل إن معنى الشرع والشريعة في لغة العرب هو (الطريق)، فإذا سرنا في هذا الاتجاه فنحن بذلك نسير على الطريق من دونِ أدنى شك.
إن مهمتنا لا ينبغي أن تكون دغدغة العواطف واستثارة المشاعر للحفاظ على الأتباع والأنصار مهما كان الثمن، فهناك حقائق على الأرض لا يمكن تجاهلها، وهناك أولويات يجب البدء بها والتعامل معها، وهناك ميراثٌ ثقيل يفتك ببلادنا ويعصف بحاضرها ومستقبلها، وليس هذا بالوقت المناسب لتمرير أي مشروعٍ خاصٍّ من أي نوعٍ كان، لكن علينا أن نتكاتف أولاً من أجل إنقاذ المريض وإفاقته من غيبوبته وإيقافه على قدميه، ليقرر هو بعد ذلك بمحض إرادته وكامل وعيه وجهتَه وتوجهَه ومشروعَه. وإلى أن يصبح لدينا الوعيُ الكافي لندرك ذلك، فاللهم قِنا شرَّ أصدقائنا وأعدائنا على حدٍّ سواء.