توارت الخلافات الفكرية بين التيارات الإسلامية المتعددة فى ميدان التحرير يوم الجمعة 29 يوليو، وأظهروا أنهم متوحدون فى هذه المرحلة حول سياسة عملية على الأرض، وانسجموا معا فى هارمونية عجيبة تجلت فى روح التسامح فيما بين فصائلهم. انظر إلى بعض شباب السلفيين الذين رفعوا علم السعودية، وفيما يُقال إنها تناصرهم ضد الإخوان المسلمين، فإذا بقيادى من الإخوان يبدى رحابة صدر ويقول إنها لا تعدو أن تكون حماسة شباب، وأضاف بأن هذه أشياء بسيطة وطبيعية فى مثل هذه الحشود! ثم إذا بهم يتوحدون فى الشعار، ويهتفون معا بأن الشعب يريد تطبيق شرع الله، فاخترعوا بذلك خلافا بعد أن أجمعت كل التيارات السياسية على وجوب أن ينص الدستور الجديد على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع! ثم يُصرّون معا على قلب جوهر أهم شعارات 25 يناير، وهو شعار «إرفع راسك فوق إنت مصري»، إلى «إرفع راسك فوق إنت مسلم». تكرار هذا النداء بطول اليوم لا يمكن أن يُعتبر مصادفة، ولا يمكن أن يكون تغيير هذه الكلمة المحورية فى الشعار زلة لسان، أو أن يعتبره البعض مجرد تنويعة تضيف مرادفا، وإنما هو إصرار على معنى الانقسام وحصر النداء على المسلمين فقط، بما يتناقض مع الشعار الأصلى الذى كان لعموم المصريين. ثم وجهوا إدانات بالغة لليبراليين والعلمانيين والاشتراكيين وأخرجوهم من صفوف المسلمين لينفردوا وحدهم بالصفة. ورفعوا صورة أسامة بن لادن، ورددوا شعارا ضد أوباما أنهم كلهم رجال أسامة!! أضف إلى ذلك أنهم رفعوا راية الجهاد السوداء، وتركوا المحللين يجتهدون ضد من يكون جهادهم فى هذه اللحظة من تاريخ مصر! وكان أول قرار من قداسة البابا شنودة بمنع الأساقفة من الظهور فى وسائل الإعلام للتعليق على هذه الشعارات. ومتابعة بقية هتافاتهم تؤدى إلى استخلاص مهم: أنهم اتفقوا على إلغاء شعارات الثورة التى اشتعلت وتطورت وثبتت قدمها على الأرض فى غيابهم وقبل أن يحسموا أمر مشاركتهم فيها! وأما ما سكتوا عنه فهو تعبير صريح عن موقف خطير، لأن سكوت السياسيين فى القضايا المحتدمة يُعتدّ به موقفا فى السياسة العملية، فهم اكتفوا بمرور الكرام، فى بياناتهم الموزعة فى مستهل اليوم، على المطالب التى ينادى يها الجميع، ثم انطلقوا بعد ذلك فى رفع شعاراتهم وتعليق لافتاتهم المعدة سلفا، وغابت المعانى التى كانت تستهدف توحيد كل أبناء الوطن بغض النظر عن الدين والمذهب والملة والعمر والمهنة والمنشأ ومستوى التعليم والطبقة الاجتماعية. وعندما أعلن 34 حزبا وائتلافا من دعاة الدولة المدنية انسحابهم من المليونية احتجاجا على نقض الإسلاميين لاتفاق توحيد الصف ولمّ الشمل، جاء تعليق أحد زعماء السلفيين مستخفا بهم وقال إن هذا انسحاب 34 شخصا!! قالها بجسارة متحديا العلم العام بأن هؤلاء المنسحبين هم شركاء أصلاء فى صنع الثورة، وأنه كانت لهم أدوار حاسمة فى نجاحها. ثم كان نجاحهم ساحقا عندما انفردوا وحدهم فى الميدان، وسجلت الكاميرات لحظتهم التاريخية عندما قلّ حجاب النساء أمام كثرة النقاب، وكان الزى الرسمى للرجال الجلباب الأبيض واللحية الكثة. وكانت الملاحظة اللافتة أنه رغم سيطرتهم على الميدان إلا أن التجهم كان يتلبسهم، واختفت روح الدعابة التى عمّت الثوار حتى فى عزّ مراوغات مبارك فى خطاباته وسعيه للالتفاف على الثورة! ومن المفيد تذكر ما قاله أحد زعماء الجماعة الإسلامية فى الجمعة السابقة على هذه الأحداث إن مَنْ فى ميدان التحرير خونة! وإنهم يدفعون لكل بلطجى 5 آلاف جنيه فى اليوم ليروّع الآمنين!! وأضاف، مُلوّحا بالقوة، بأن دوره هو وجماعته أن يذهبوا لتطهير ميدان التحرير فى جمعة 29 يوليو. وكان هذا الكلام الخشن من أهم أسباب محاولات لم الشمل التى التقت فيها التيارات السياسية المتعددة بمشاركة الإسلاميين وخلصوا إلى الدعوة لجمعة 29 يوليو فى محاولة للتجميع، فكان ما كان!! وتتداعى الأسئلة: ما الذى جعل الإسلاميين يشهرون خلافهم بهذه الحدة مع بقية التيارات السياسية الأخرى، وبما يُفهم منه أنهم فى حالة استغناء عن الغير وأنهم غير حريصين على التنسيق مع مَنْ عداهم؟ هل أعجبتهم كثرتهم وظنوا أنهم مكتفون ومتمكنون وأنهم اقتربوا من تحقيق هدف إقامة الدولة الإسلامية كما يفهمونها وأن التحالف مع القوى الأخرى يعرقل مسيرتهم؟ ولكن أين البُعد الأخلاقى هنا، من دعاة التمسك بالأخلاق، وهم يقفزون على ثورة شاركت تكتلاتهم فيها لاحقا، بل منهم تنظيمات كاملة أدت دور الكومبارس، ثم إذا بهم يُبرمون اتفاقات، أو يوحون عمدا بأنهم موافقون، ثم ينفضون أياديهم ويدّعون أن هذا لم يحدث!! ثم، لقد كان كثير من السلفيين، فى حال استضعافهم، يرفضون نقد مبارك، برغم اقتناعهم بفساده واستبداده، وينكرون على المعارضة نقده، فلما أطاحت به الثورة، قفزوا إلى الواجهة، سعيا للفوز بأكبر مكاسب لم تكن لها فرصة للتحقق إلا بغيابه، ونقلوا تأييدهم للمجلس العسكرى، وراحوا ينتقدون الآخرين الذين يختلفون مع المجلس بشكل موضوعي! بل إن قطاعا كبيرا من السلفيين كان أول ظهور له بعد أن أُطيح بمبارك، وبينما البهجة تعمر البلاد فى ظل إحساس عائد بالوحدة الوطنية، إلا أنهم احتشدوا فى قلب ميدان التحرير يرفع رجالهم لافتات تنادى بعودة «أختي» كاميليا شحاتة! وذهبوا بعد ذلك لمحاصرة الكاتدرائية فى العباسية مدّعين أنها سجينة هناك وطالبوا بتحريرها! ومن الطرائف الجديرة بالملاحظة أن مبارك كان يعلن دائما خلافه الشديد مع الإسلاميين، فجاء أبناؤه وأنصاره فى روكسى ليعلنوا تأييدهم لاستيلاء الإسلاميين على ميدان التحرير، ويقولوا: «نحن لا تختلف معهم بل نحبهم ونحترمهم» والخلاصة، إن الإسلاميين، تدعمهم قوى أخرى، يستعرضون قوتهم لتعويق تنفيذ وعد المجلس العسكرى بتصحيح بعض كوارث الاستفتاء المتعجل على التعديلات الدستورية بوضع مبادئ حاكمة فوق دستورية، وهم يخططون للسيطرة على لجنة وضع مشروع الدستور دون أى قيد أو التزام مسبق، لتكون لهم حرية التفصيل على مقاسهم. وأمامنا تجربة الدستور الإيرانى الذى كبّل الحياة السياسية فى إيران مما دفع ملايين الإيرانيين للخروج فى مظاهرات عمت البلاد ولم يوقفها إلا شراسة أجهزة أمن الحكم الإسلامى الإيرانى. الخوف على تبديد الوقت دون تبصير الجماعة الناخبة، التى هى صاحبة القول الفصل فى الموافقة على مشروع الدستور، بما يُحاك ضد مصالحها ويُراد له أن يمر ليستمر زمنا لا يعلم أحد إلى متي!! ومن الضرورى لتفادى مخاطر هذا الاستقطاب أن يتفق الجميع على نبذ العنف والتلويح به.