ما أشبه الليلة بالبارحة، ففى اللحظة التى تنحى فيها «مبارك» بعد ثمانية عشر يوما من نضال المصريين، تجلت فيها أبهى القيم وأجملها من خلال تكريس كل ما هو مشتركأصبح ميدان التحرير عنوانا لهذه الثورة التى لم يرفع فيها شعار دينى واحد، بحيث صار المصريون المجتمعون فى الميدان جسدا واحدا وروحا واحدة. لكن وفى ظل تلك الفرحة الغامرة بسقوط «مبارك» فوجئنا بملصقات تعلق فى بعض ميادين مصر تندد بالدولة المدنية وتطالب المسلمين، بالحفاظ على المادة الثانية من الدستور، على الرغم من أن أحدا لم يقرب تلك المادة بأى إشارة ولو عابرة، لكن كان لابد من شق وحدة المصريين، باعتبارها أساس نجاح الثورة، وبالطبع كان صاحب هذه الدعوة التيار السلفى، الذى كان رافضا للثورة بدعوى عدم جواز الخروج على الحاكم، وقد مضى على نهجهم أيضا تيارات إسلامية أخرى. واليوم عادت تيارات الإسلام السياسى لتقوم مرة أخرى بتعميق الشرخ فى الوجدان المصرى وتدمير روح التحرير، وذلك من خلال رفع شعارات دينية تقسم وحدة المصريين، وعلم مصر الذى ظل يرفرف فى ميدان التحرير بأعداد كثيفة وضخمة طيلة أيام الثورة المصرية إلا أنه فى جمعة التاسع والعشرين من يوليو، جرى استبداله برايات سوداء وأعلام السعودية، والإخوان، وكانت السيوف حاضرة فى كلا العلمين والتى ترافقت مع شعارات مثال «حى على الشريعة ورصاص برصاص ودم بدم»، وكأننا فى ساحة حرب بدلا من ساحة للتحرير. وبدلا من شعار «ارفع راسك فوق أنت مصرى» جرى استبداله بشعار «ارفع راسك فوق أنت مسلم»، وعندما حاول البعض لم الشمل من خلال شعار «مسلم مسيحى كلنا مصريين»، كان الرد «ارفع راسك فوق أنت مسلم»، وفى الوقت الذى كانت تطوف الميدان حشود تردد هذا الشعار كانت الكاتدرائية الإنجيلية القريبة من ميدان التحرير قد فتحت أبوابها لوفود المصلين الذين يرغبون فى الوضوء استعدادا لصلاة الجمعة. هذا فى الوقت الذى علقت فيه على صدور البعض صور لأسامة بن لادن، وهتافات من قبيل «يا أوباما يا أوباما كلنا هنا أسامة». فى السياق ذاته كلما حاول أحد المتظاهرين أن يرفع شعار الثورة المصرية «تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية» كان يواجه بشعار «الشعب يريد تطبيق شرع الله»، «الشعب يريد وزارة للزكاة». ومن أبرز المفارقات التى أدمت قلوبنا صبيحة الجمعة، أننا فوجئنا بصوت أذان الفجر يُرفع من منصة السلفيين بالميدان، فتوجهنا لأحد مسئوليهم نخبره أن موعد الأذان لم يحن بعد، فنظر إلينا ضاحكا إننا نصلى الفجر مع أهلنا بالمدينة المنورة، بعدها بأقل من خمس عشرة دقيقة جاء صوت الأذان من جامع «عمر مكرم» فعرفنا أننا مازلنا فى مصر. فى هذا الجو المشحون بالضجيج الدينى لم يجد أحد الشباب وسيلة يحمى بها نفسه سوى أن يعلق على رقبته ورقة مكتوبا عليها «وربنا أنا مسلم» هكذا تحول ميدان التحرير على يد تيارات الإسلام السياسى إلى ساحة من المشاحنات بدلا من كونه ساحة للتوافق، وفى ظل هذه الأعداد التى توافدت على الميدان من مساء يوم الخميس وآلاف السيارات التى نقلت هذه الوفود، والمنصات التى ارتفعت فى سماء الميدان تكسوها الفخامة والبذخ، كان السؤال، من أين هذه الملايين من الأموال؟ فى الوقت الذى يرزح فيه ملايين المصريين تحت نير الفقر، ولكن الإجابة جاءت عندما رأينا علم السعودية مرفوعا فى الميدان والتى ناصبت الثورة المصرية العداء منذ اللحظة الأولى، ومن شديد الأسف أن معظم هذه الأموال يذهب لتيارات الإسلام السياسى بعيدا عن أى قنوات شرعية وخارج إطار أى عمل مؤسسى، يرافق كل ذلك قنوات فضائية تبث سموم التعصب والكراهية والحض على العنف كل ذلك فى محاولة لضرب ساحة ميدان التحرير وفى القلب منها الثورة المصرية، فهل سينجح هؤلاء العابثون أم أن مصر عصية على الاحتواء؟!.