أتحدث عن مستقبل السلفيين في مصر، لا عن السلفية نفسها التي هي باقيةٌ لأنها منهج وفكر، ليست جماعةً من الجماعات ولا حزبًا من الأحزاب، كما أن الجماعات المنتسبة إلى السلفية ينبغي أن تُحاكم إلى هذا المنهج، لا أن يُحاكم المنهج إلى الأفراد والجماعات، وما يصدر منهم وعنهم. وهذه حقيقة لابد من التنبيه عليها والتأكيد بادئ ذي بدء، حتى يفهم بعضهم كيف أن تمسكي وغيري بأصول المنهج السلفي وأركانه (لم ولن) يمنعنا البتة من انتقاد أيٍّ من المنتسبين إليه، أو المتدثرين بدثاره، أو تنبيههم إلى ما يتوجب علينا تنبيههم إليه، وتحذيرهم منه. ووصول هذا العدد الكبير من السلفيين إلى البرلمان فرصةٌ لهم قد لا تتكرر، وحدثٌ غير مسبوق في تاريخنا الحديث، لكن هذا لا ينبغي له أن يكون سببًا للفرح والفخر والإحساس بالزهو، بل هو أمرٌ يدعوهم إلى الجدية الشديدة في تشخيص الواقع والتعامل معه، وإلى الشعور بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم. أعلم أن رؤية كثيرٍ من الملتحين في الجلسة الأولى لمجلس الشعب سوف تسبب إزعاجًا شديدًا لكثيرين، وستكون مصدر سعادةٍ لكثيرين أيضًا، ولكن يجب علينا ألا نختزل المشهد كلَّه فيما سيحدثه من إزعاجٍ وتخوفٍ أو من زهوٍ وفخر، لأن القادم أهم وأخطر. وواقع الحال هو أن مصر بلدٌ كبير ومهم ومؤثر، يدرك خصومه الدوليون والإقليميون جيدًا باستقراء التاريخ والحقائق أن بنهوضه ينهض العالم العربي والإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، بل ربما شعوب العالم المستضعفة كلها، والعكس بالعكس. ولأنه بلد كبير ومهم ومؤثر فإنه غير مسموحٍ له بأن يسقط، كما أنه غير مسموحٍ له بأن ينهض، بل يراد له أن يبقى في حالةٍ من الثبات أو السبات العميق، وأن يظلَّ في وضع الجلوس دائمًا، أو أن يكون أشبه بمن هو قابعٌ في غرفة الإنعاش تحت أجهزة التنفس الصناعي، لا يكاد يفارقها للحظاتٍ قلائل حتى يُجبر على العودة إليها مجددًا وإلا هلك، أو بمن هو غارقٌ تحت الماء حتى يُشرف على الاختناق، فيُسمح له بالطفو لاستنشاق بعض الهواء، فقط ليعود إلى القاع مرةً أخرى لكن من دون أن يموت ويختنق. إن قيام دولةٍ قويةٍ قادرةٍ في مصر، مستقلةٍ تمام الاستقلال عن غيرها في قرارها وإرادتها ومواقفها، وفي اقتصادها وفكرها -استقلال القلوب والعقول والبطون– لهو أمرٌ يخشاه كثيرون أيما خشية، ويعملون على منعه تمام المنع، حتى وإن كانت هذه الدولة علمانيةً في جوهرها؛ كمشروع دولة محمد علي ومشروع الدولة الناصرية على سبيل المثال، لا كما يظن البعض من أن هذا الحظر وذلك المنع مُنصَبٌّ على إسلامية الدولة فحسب، وإن كانت الخشية هنا قد تكون أعظم، ويكون المنع أشدَّ وألزَم. وقد تعلموا من دروس التاريخ أنَّ إجهاض مثل هذه الدولة وهي ما تزال جنينًا لم يولد بعد، أو وأدَها وهي ما تزال في المهد صبيةً هو الرأي الأحكَم والخيار الأقوَم بالنسبة إليهم. ولهم في ذلك أدواتٌ ووسائل، منها: صناعة العملاء، ثم دعم هؤلاء العملاء، وتقوية أمرهم، وتمكينهم، وتثبيتهم في مواقعهم، والتغاضي منهم عما يشتدون في إنكاره على من سواهم (راجع موقف الغرب من فيدل كاسترو وروبرت موجابي وأمثالهما ممن يرمونهم بالدكتاتورية والاستبداد، ثم موقفه ممن هو شرٌّ منهم في بلادنا تعلم صدق ما أقول). وقد يكون هذا العميل أحد الحكام، أو قيادةً عسكريةً أو شُرَطيَّة، أو كاتبًا في صحيفة، أو أستاذًا في جامعة، أو مجرد شخص عادي؛ فالعمالة هنا قد لا تكون اتفاقيَّة، أي في صورة العمالة المتبادرة إلى الذهن، المتمثلة في طرفٍ يدفع ويعطي، وآخَر يقبض ويأخذ، ولكن بتشكيل عقل عميلٍ وشخصيته ووجدانه، فإذا فعلوا ذلك أمكَنَهم أن يطلقوه أينما شاؤوا، وكيفما شاؤوا، وسينطلق هو وحده كالطَّلقة يُفسِد ويُخرِّب، وقد يحسب مع ذلك أنه يُحسن صنعًا، وأنه يحمي نفسَه وبلاده من خرابٍ وبيل، وفسادٍ عظيم، ومرتعٍ وخيم. ومن تلك الأدوات والوسائل: تخريب التعليم الذي هو عماد أية نهضة وأساس أي تقدم، وإشاعة الانحطاط في الفكر والسلوك، والانشغال بتوافه الأمور وصغائرها، وتشجيع الأنماط الاستهلاكية الرديئة، بما يُحيل الأمة عاجزةً طريحةً لا تقوى على شيء، ولا تقدر على الدفع عن نفسها بأدنى شيء. ومنها: التحكم في الاقتصاد عن طريق إغراق البلاد في الديون الباهظة، والربا الفاحش، وتملك أصولها وحيازة أموالها، بما يمكنهم من تكبيل اقتصادها والقدرة على إحداث الأزمات تلو الأزمات فيه، وشلِّه بالكلية إذا أرادوا. ومنها: تدمير الجيش بتقليص حجمه أو تسليحه، وحجب التكنولوجيا العسكرية عنه إلا بحساب، وربط تسليحه وتمويله بمصدرٍ واحدٍ بما يمكنهم من خنقه في يومٍ من الأيام. إلى غير ذلك من الأدوات والوسائل التي يضيق المقام عن محاولة حصرها. والشريعة الغرَّاء التي ينادي السلفيون بتطبيقها والعودة إليها تطالبهم بالعمل على إنهاء هذه الأوضاع المزرية في أقرب وقتٍ ممكن، وضرورة التكاتف مع غيرهم من القوى الوطنية الشريفة من أجل تحقيق ذلك، وبناء تلك الدولة القوية القادرة المستقلة. وقد قلت من قبل، وسأقولها ثانيةً: إننا نحتاج إلى نظرةٍ أكثر شمولية للأمور، لا أن ننتظر قضايا بعينها نَهبُّ من أجلها، ونغض الطرف عن غيرها وكأنها ليست بقضايا شرعية تتطلب منا موقفًا حاسمًا أيضًا. إن الفساد الأخلاقي والمالي والإداري الذي تفشى في مجتمعنا كسرطانٍ غادر، تمامًا كالأمراض التي تفتك بأجساد المصريين، والظلم والاحتقار والإهانة والاستبداد الذي يعصف بأرواحهم وكرامتهم، وتدني مستوى التعليم والثقافة، حتى صار معظمنا نصف أميين تقريبًا، وتفسخ الأسر، وهجرة العقول، والبطالة، ونهب الثروات، وتبديد مقدَّرات البلاد -وغير ذلك مما يعرفه الخاصُّ والعام- يتطلب من السلفيين أن يكونوا مع الطليعة من هذا الشعب في قضاياه المشروعة كلها، وأن يعلموا جيدًا أن من يحاول إقصاءهم عن التفاعل والانخراط في قضايا وطنهم الملحّة -التي هي قضايا شرعية ملحة أيضًا في الوقت نفسه- يدرك تماماً أنه يُحبط بذلك جزءًا كبيرًا من القدرة على الإصلاح الحقيقي، لأنَّه يعزل جزءًا مهمًّا من النخبة الحقيقية المؤهلة لمثل هذا الأمر، القادرة على تحمل المسؤولية، المخلصة في البذل والعطاء والهدف. ومما يؤلم النفس أن كثيرًا ممن يسهم في عزل السلفيين وإقصائهم هو من السلفيين أنفسهم، من دونِ وعيٍ منه بذلك، وذلك بأن يحصر همومه وقضاياه في أشياء بعينها دون غيرها، وبحرصه المبالغ فيه على التمايز والتباعد عمن خالفه ولو في الشيء القليل، أو بالاستعلاء عليه وتحقيره. إنني لا أريد للسلفيين في البرلمان أن يقتصر نشاطهم وتتوجه همتهم إلى ملاحقة روايةٍ أو كتابٍ هنا أو هناك، أو تعقب أفلام أو رسوم مسيئة هنا أو هناك، أو الاكتفاء بإصلاحاتٍ شكلية والاحتفاء بانتصاراتٍ وهمية؛ لأن هذا بالتحديد هو ما يريده بعضُ من لا يريد لهم الخير أن يكون وأن يحدث. كما لا أريد لهم أن يشعروا ولا أن يتصرفوا وكأنهم صاروا جزءًا من النظام (الرسمي) والسلطة (الرسمية) والإعلام (الرسمي)، ومن كل ما هو (رسمي)، لأنه يجب ألا ينسوا أن البعد عن هذا كلِّه في السابق هو ما أكسبهم شيئًا كثيرًا من الثقة والمصداقية لدى الناس في حقيقة الأمر، فلم يتلوثوا بما تلوَّث به سائر من شارك في الحياة (الرسمية) ودخل في النظام (الرسمي) في زمن النظام شبه البائد ولو من باب المعارضة، بحيث صار الناس يرون في كلِّ شخصٍ (ظاهرٍ) أو (مسموحٍ به) أو (مُصَرَّحٍ له) أو (رسمي) شخصًا فاسدًا بالضرورة، أو طامعًا في مالٍ أو منصب أو وجاهةٍ شخصية، لكثرة ما رأوا من هذا النوع في الحقبة المذكورة. وهذه ميزة لن تدوم طويلاً إذا لم يحافظوا عليها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ عليهم حُسن تحديد الأولويات، والبدء بالممكن والمستطاع دون ما يبدو سقفًا عاليًا لا سبيل للوصول إليه حسب المعطيات الحالية، ويكون ذلك ضربًا من ضروب تعظيم الخير والصلاح، وتقليل رقعة الشرِّ والفساد، وخطوةً في الاتجاه الصحيح. ولنعُدُّ أنفسنا جميعًا –السلفيون وغيرهم- في مرحلةٍ انتقالية طويلةٍ بعض الشيء (وإن كانت الانتقالية قد صارت كلمة سيئة السمعة) ربما تمتد عشر سنواتٍ أو حتى عشرين سنةً مقبلة، نتمكن خلالها من بناء مشروعٍ وطني حقيقي يدفع الجميع إلى الحرص عليه والذود عنه، ويُعيننا على حرية الفكر والقرار والفعل. إنني أتفهم سعادة بعض السلفيين وافتخارهم بما يجري، لأنه يمثل لهم نهاية حقبةٍ من الظلم والاضطهاد والتجاهل التام لحقوقهم، بل لوجودهم، وبدايةً أخرى يحظون فيها بالثقة والاحترام والقدرة على إثبات الذات. لكني أخشى أن الأمر قد لا يكون بهذه البساطة، وأن النيات الحسنة قد تكون بعيدةً عن هذا المشهد، أو عن أي مشهدٍ يجري التحضير له وإعداده، وأن بعضهم يرغب في استعمالهم كمجرد أداةٍ من أدوات الثورة المضادة حتى يتخلص منهم ولو بعد حين، وإذا تمكن من ذلك، أو مكَّنوه هم من ذلك فلن يدافع عنهم حينها أحد، لأنهم لم يدافعوا عن أحد، واكتفوا بالدفاع عن أقسام الشرطة ومديريات الأمن التي لا تحتاج إلى دفاع.