يمكن لنا أن نلخص الخطأ الذي يقع فيه عامة المنتقدين للسلفية المصرية في كلمتين: ضعف المتابعة الدقيقة لما يجري في داخلها، والتعميم الذي يغفل الفروق الواضحة بين كثيرٍ من المنتسبين إليها. وهذا ما نجده على سبيل المثال لا الحصر في الانتقادات التي وجهها الدكتور علاء الأسواني مؤخرًا إلى الجماعات الإسلامية على وجه العموم، والتيار السلفي على وجه الخصوص. وإذا تجنبنا هذين الأمرين، أعني التعميم وقلة المتابعة، لوجدنا أن الصورة العامة تختلف شيئًا كثيرًا عما ورد في كلام الدكتور الأسواني، مع عدم تشكيكي بدايةً في دوافعه وأغراضه من وراء نقده هذا، لأني أعلم أن الحالة السلفية في مصر تبدو ملتبسةً وغامضةً عند كثيرين، كما أنها لا تخلو مما يحتاج إلى نقدٍ ومراجعةٍ واجبة. ومع هذا فإن أي متابع جيد لمسار الحركة السلفية المصرية في السنوات الأخيرة يدرك أنها مرَّت بأطوارٍ من النقد الذاتي الذي قد يطلق عليه البعض تطورًا في الخطاب السلفي، والحق أنه ليس كذلك، لكنه عودةٌ ومراجعةٌ للخطاب السلفي الصحيح، الذي كان من أبرز تجلياته في مصر الحديثة أمثال محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب ومحمد شاكر وأحمد شاكر ومحمود شاكر وغيرهم من أعلام المدرسة السلفية القديمة، التي كانت تعد نفسها جزءًا من المجتمع المصري بهمومه وقضاياه وأحداثه كافة، من دون أن تذوب في فكر غيرها فتفقد الهدفَ من وجودها، وأصالةَ انتسابها وتوجِّهها، ومن دون أن تنفصلَ عنه فتصير حزبًا من الأحزاب، أو طائفةً داخل المجتمع لها اعتقاداتٌ خاصة، وأشكال متميزة، وأماكن تواجدٍ معروفة، وهو ما يسمَّى بالإنجليزيةCult أو الطائفة، من غيرِ أن تكون تلك الطائفة فاعلةً داخل المجتمع، مشاركةً في قضاياه، منشغلةً بالشأن العام، مع احتفاظها بجوهرها الأصيل، ونقاءها الفكري والعقدي، وقضاياها الخاصة كأي مدرسةٍ فكريةٍ أخرى. ولا ينبغي أن نلوم الدكتور الأسواني أو غيره على عدم متابعته لتلك الحركة الداخلية الهادرة داخل التيار السلفي فيما قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير بسنين، لأن أصحاب تلك المراجعات (وإن كانت كلمة المراجعات قد صارت سيئة السمعة) كانوا محرومين على الدوام من أي منبرٍ إعلامي أو تواجدٍ شرعي، شأنهم كشأن أي فصيلٍ شريفٍ في العهد البائد. ولم يكن لهم من منفذٍ سوى مواقع الإنترنت ومنتدياته، التي كانوا يبثون من خلالها أفكارهم وتوجهاتهم، التي سيدهش الدكتور الأسواني إذا راجعها من فرط تناقضها مع ما وقر في ذهنه من تصوراتٍ حول المنهج السلفي وأصحابه، ومن تماشيها المطلق مع حركة المجتمع العامة التي أدت إلى الثورة في نهاية الأمر. وإنني لأدعوه إلى قراءة سلسلة مقالات نشرها كاتب هذا المقال في سبتمبر 2010 وما بعده بعنوان (الدعوة السلفية ومشروع التوريث) وأخرى بعنوان: (نظرات في الحاكمية والسياسة الشرعية) كتبتها في الوقت نفسه، وغيري كثيرٌ من المثقفين السلفيين المهمومين بقضايا وطنهم، ممن كانوا يبحثون كغيرهم عن مخرجٍ من ذاك الدرك الأسفل من الذل والهوان والظلم والفقر والتخلف الذي عانينا منه جميعًا. وكنا نقول ونكرر في تلك المقالات أنه إن لم يكن الخروج على الحاكم بالسلاح والقتال جائزًا أو ممكنًا في الحالة المصرية، فهذا ليس معناه أن التكليف قد سقط عنا بالكلية، وأن نقبع في بيوتنا أمام شاشات الحواسيب نكتب وننظِّر من دون فعلٍ حقيقي، أو أن ندخل في نزاعاتٍ جانبية شركاء الوطن من الأقباط وكأنهم الخصم والعدو، وأنه إذا كنا نرفض منهج العنف والقتال في خلع الحاكم وعزله فهذا لا يُسقط واجبنا في تحقيق هذا الهدف بوسائل أخرى، مع ضرورة الانخراط مع غيرنا من التيارات الوطنية الشريفة في سبيل تحقيق ذلك، والتخلص من (العزلة الشعورية) التي أوجدت حواجز مصطنعة بيننا وبين غيرنا، مع أن تلك العزلة لا أصل لها في منهجنا وثقافتنا وحضارتنا. ويمكن للدكتور الأسواني أن يراجع أيضًا ما كتبته وغيري منذ الخامس والعشرين من يناير، ليطلع على موقف قطاعٍ لا بأس به من السلفيين من الثورة والمشاركة فيها. على أن أبناء الثورة الحقيقيين غير حريصين -كما يعلم الدكتور- على أن يُذكَروا ويُشكروا، وينأون بأنفسهم عن التباهي والافتخار بما فعلوه وبذلوه. أعلم أن الوضع اليوم قد اختلف كثيرًا عما كان عليه يوم الحادي عشر من فبراير، وأن الأصوات الواعية الحرة الحريصة على التوافق، الحريصة على الثورة ومبادئها، المحافظة على الولاء لها هي أشد الأصوات خفوتًا هذه الأيام وأقلها ظهورًا، وما زلت مصرًّا على أن حالة الاستقطاب الحالية مقصودة وممنهجة ومخططٌ لها بعنايةٍ فائقة. ولكن عليَّ أن أؤكد للدكتور الأسواني أن الحديث عن صفقاتٍ بيننا وبين المجلس العسكري لا أساس له من الصحة، وأنه إذا وجدت هذه الصفقات بالفعل فلسنا بالقطع طرفًا فيها. ولا شك أن حالةً من الزهو والانتشاء بالاعتراف الرسمي والظهور الإعلامي قد أصابت بعض المنتسبين إلى السلفية، وجعلتهم يبالغون بعض الشيء في إعلان موافقتهم للسلطة الحاكمة على بعض ممارساتها، أو السكوت عن تلك الممارسات في أحيانٍ أخرى، مع أنه كان ينبغي عليهم أن يعلموا أن تلك الممارسات إن استمرت فلن تستثنيهم في نهاية المطاف، بل سيكونون أول من يكتوي بنارها، وقد بدت بوادر ذلك بالفعل. ولكن مع هذا فإن حركة التصحيح والأخذ والرد داخل التيار السلفي لم تتوقف، والدكتور الأسواني يعلم كما يعلم غيره أن الصوت العالي قد يكون هو الظاهر للعيان، الغالب على الأسماع في بعض الأحيان، وليس معنى ذلك بالضرورة أن يكون الحق معه، والمستقبل له. إننا على يقينٍ من أن المبادئ لا تتجزأ، وأقول ذلك تعقيبًا على ما ذكره الدكتور من سكوتنا على قضية المحاكمات العسكرية للمدنيين، ولو أنه تجنب التعميم وبذل جهدًا أكبر في المتابعة لوجد أن كاتب هذه السطور –بصفته متحدثًا باسم حزب النور- كان له الشرف بأن يكون أول من أنكر هذا الأمر وانتقده، مع الدكتور محمد البرادعي (وتصريحه منشور على موقع الدستور الأصلي مع كلام الدكتور البرادعي)، ثم أيدهما الشيخ الفاضل حازم صلاح أبو إسماعيل بكلامٍ قوي صريح، بينما التزم عامة السياسيين وكثير من الأحزاب الصمت حيال تلك القضية أوَّل ما أثيرت. إننا لسنا ممن يدفن رأسه في الرمال، ولا ننكر أن الانهيار الرهيب الذي أصاب البنية القيمية والأخلاقية والثقافية للمجتمع المصري في الثلاثين عامًا الأخيرة قد أصاب بدوره جزءًا من المنتسبين إلى المنهج السلفي بوصفهم جزءًا من هذا المجتمع، ولكني أتمنى على الآخرين التحلي بالشجاعة الكافية للإقرار بأخطائهم وخطاياهم وأوجه قصورهم كما نفعل ذلك نحن. وسأشرع في مقالاتٍ تالية إلى أستعراض كافة القضايا التي اختلفنا فيها وحولها، لعلنا نجد مخرجًا من أزمة الاستقطاب هذه.