كان جسده مسجىً على سرير المستشفى، فقد نقل إليه منذ يومين إثر إصابته بجرح قطعي في رقبته في ميدان التحرير، أومأ إلى أخيه فدنا منه ليسمعه، طلب منه بعضا من الماء جاء به إليه ، غمس كلتا يديه فى الوعاء المعدنى ومسح بهما وجهه ، ثم غمسهما مرة أخرى ومسح مرفقيه ورأسه، ثم طلب من أخيه أن يضع الوعاء عند قدميه ، وبصعوبة شديدة وضع كلتا قدميه فى الماء وحاول أن يصل إليهما ليمسح عليهما بالماء فلم يستطع ، فمسحهما أخوه، ثم أخرجهما من الوعاء برفق، ووضع الوعاء جانباً ووقف يتطلع فى وجه أخيه المتوضئ، وجده يصفو، وتزول عنه علامات الألم الذى كان يعتصره، وعلا وجهه شبح ابتسامة خفيفة ، وضع راحتى يديه على وجهه، نطق بالشهادتين ثم أغمض عينيه .. أغلق وراءه الباب بهدوء، فالتفت ليرى من أغلقه فلم يره، نظر أمامه وبدأ يخطر أولى خطواته داخل النفق، أحس كأن هناك من يحمله حملا، نظر إلى الأرض فلم يجد أرضا، وإلى السقف فلم ير سقفا، عن يمينه وشماله فما وقعت عيناه على يمين أو شمال، حاول أن يمد يده إلى عينيه فلم يجد يديه ولم يشعر بعينيه مع أنه كان يرى كل شئ ويشعر بكل شئ، ولكنه ماعاد يشعر أو يرى كسابق عهده بالرؤية أو بالشعور، إن كل شئ أصبح رائقا وصافيا وشفافا، حتى جسده اختفى، تلألأ العالم من حوله نورا يشع فى جنبات نفسه بلا حدود، ويضئ ضميره عبر النفق الطويل.. بدأ الموكب .. هو محمول ولا يدرى من يحمله، طائر كالنسيم فى هدوئه وروعة صفائه، يتهادى على ضفتى النفق، الخطوات المحمولة خفيفة ومريحة إلى حد الثمالة، ما هذا الإحساس الرائع ؟ ما هذا الفيض النورانى اللانهائى ؟ مع كل خطوة يخطوها الموكب تزداد الراحة، ويرتاح الصفاء، وتصفو الخطوات، ويبدأ الاستعراض، انفتح كتاب ضخم، صفحاته أحداث، وكلماته مواقف، وفقراته كلمات وصيحات، وضحك وبكاء ، وهدوء وغضب، استشهاده نوّر نصف الكتاب الأخير، كل ما قاله، كل ما عمله، كل ما صلاه وما صامه، كل ما قامه وما عاشه، كل ما كسبه أو خسره، بره وصدقه، خيانته وكذبه، أمانته وغشه، علاقاته بكل من قابل أو التقى فى حياته؛ ولو للحظات، كل ما قدمه وما أخّره ، كل هذا حاضر أمامه يقرأه بعينيه التى لا يجدها، لكنه يعيه بكل حواسه . كلماته الطيبة وهتافاته في الميدان أطلت عليه ورودا ذات عبير رائع، وألوان خلابة لم يرها من قبل، ولم يع مثل جمالها أيام حياته، الكلمة الواحدة تمثلت أمامه وردة ذات سبعمائة برعم، لها سبعمائة لون وسبعمائة رائحة، كل لون يشعره بالطمأنينة، وكل رائحة تشعره بالرضا، وكلما عبرت كلمة طيبة فى ثيابها الوردية؛ تضاعفت زهراتها، وتنوعت ألوانها، وفاح عبق رائحتها، يا الله .. وبين آلاف وآلاف الورود ، تطل رأسٌ سوداء كالحة كئيبة مظلمة ، تختنق من فوح الطيوب والألوان ، إنها كلمة خبيثة تفوّه بها يوما، رأى نفسه يقولها أمام نفسه، يا الله .. إنه يشهد على نفسه، يرى نفسه يقول ويقول ويقول، ويصيح ويغضب ويهدأ، ويستغفر، فتتضاعف الألوان ، ويخنق العبير الفواح الرؤوسَ السوداء فتختفى ، وتحل محلها أحاسيس الطمأنينة والسلام . فاكهة لم ير مثلها، وطعوم يراها للمرة الأولى، وروائح لم تخطر على باله فى الدنيا، كانت تحف الموكب السائر فى هدوء وطمأنينة وسلام ، كلها كانت صدقاته، كل صدقة بجنة، وكل عطاء قليل أو كثير ببساتين وقصور وأنهار وعيون ماء .. دغدغت حواسه نسمات لم يشعر بأرقّ منها، وأحس بصدره الذى لا يراه يتسع ويتراحب، ويملؤه النسيم المحمل بنفحات بر والديه، رأى دعوات أمه وأبيه قصورا وجنات وحدائق، كلها أطلت عليه بنظرات ملؤها الحنان والإحسان والرقة والعذوبة . ثم وياللعجب .. رأى يديه ورجليه ورأسه وكل أعضائه تشهد بما فعل بها، وشاهد عينيه وشفتيه وأذنيه وجلده وحلقومه كلها تقرّ بما أحس وشعر ، ورأى شبابه وفتوته، وكهولته تمثلت أمامه تدلى باعترافاتها عما أفناها فيه، وتحمد له ثورته على الحاكم الظالم. وهو لازال محمولا ولا يدرى مايحمله ، وكلما تقدم الموكب الفرْد ؛ كلما ازدادت العذوبة والرقة والجمال ، وترسخ الإحساس بالرضا ، وتمثلت أعماله فى كل ثوانى حياته أمامه مخلوقات حية ، وازدان أفق النفق بميزان مضئ ، حسناته فى كفة، وسيئاته فى كفة، وجعلت كلماته وأعماله ؛ وحسناته وسيئاته تتقافز كل إلى كفتها، حتى ثقلت كفة الحسنات، وهبطت كفة السيئات وتهاوت إلى الفراغ، حين ملأه صوت حنون: أيها الشهيد.. ستُعرض على كل هذا غدوا وعشيا ، ويوم القيامة .. جنة ونعيم إلى الأبد .. جنة ونعيم إلى الأبد .. جنة ونعيم إلى الأبد.. علت وجهه ابتسامة راضية، قبله أخوه على جبينه، وسقطت منه دمعة على وجهه .. وأظلمت الدنيا ..
قبر البلطجي.. الألم يعتصر جنبيه ، تكاد روحه تخرج من حلقومه مع كل تأوه وأنّة، وهو يتقلب فى سرير مستشفى قصر العيني الذى نقل إليه منذ يومين، فقد أصاب رأسه حجر ألقاه زميله بينما كان يضرب بسكينه رقبة أحد الثوار في ميدان التحرير، وكان قد ضرب قبله عشرات من الثوار ! آلامه مبرِّحة، وتمنى ساعتها لو لم يأخذ الألفي جنيه ليضرب الثائرين .. نادى على أخيه بصوت عال، جاء الأخ متثاقلاً يسأله عما يريد، فسبّه وعنّفه على عدم اهتمامه به، وصاح بصوت سمعه من يقفون خارج الغرفة: لن أموت ياولاد ال... ، سأدفنكم جميعاً قبل أن تشمتوا فيّ ، يا ... ، ي .. آآآه ...... آهة أطلقها وأخوه ينظر إليه باستهزاء وهو واقف يتفرج عليه، وجد وجهه يظلم ويربدّ وتبدو تجاعيده أكثر عمقاً ، وارتفع حاجباه ، وجحظت عيناه ، تقلصت عضلات وجهه ورقبته ، ولم يعد قادراً حتى على الآه ، تحجرت نظرة مفزعة فى عينيه تتطلع فى الفراغ ، حاول أن يرفع يده فلم يستطع ، اهتز جسده ، تشنجت ساقاه وذراعاه وضلوعه؛ كأن عظامه ستخرج من بين تجاعيد جلده المظلم .. أغلق الباب وراءه بعنف شديد، الرائحة فظيعة نتنة، وهو يُدفع بقوة خفية ليمشى، نظر إلى جسمه فلم يجده، مع إن الآلام لازالت مبرّحة وتزيد، ولا زال هو لا يطيقها بينما لا يستطيع أن يطلق آهة واحدة، حاول أن يقاوم تلك القوة التى تدفعه فلم يقدر عليها ، إنها تدفعه إلى نفق ضيق أحس من شدة ضيقه أن ضلوعه تختلف؛ مع أنه لا يرى أضلاعه، وشعر بأخمص قدمه فى حلقومه والآلام تجتاح كل أعضاءه، وهو يسير رغما عنه فى هذا النفق الضيق المظلم ذى الرائحة العفنة .. أطلت عليه رؤوس قذرة كالحة السواد، تتشعب رقابها ألوفاً، كل رأس يزيد النفق إظلاماً وضيقاً وعفونة، إنها كلماته التى كان يلفظها، كل كلمة رأس حىّ ذو أفواه كريهة وكل لفظ تلفظ به فى حق الله ؛ تمثل أمامه وعاءً للصديد والقيح النتن، امتلأت بها كل اتجاهات النفق .. رأى وحوشاً سوداء لزجة مقززٌ منظرها ، عيونها تبث ألسنة نارٍ ، لها آلاف الأعين ، وبين تلك العيون البغيضة لاح طيف أبيض، سرعان ما اختفى من كثرة الوحوش السوداء ، إنها دعوات أمه وأبيه التي اختنقت فى هذا الخضم الهائل من الذنوب والخطايا، وآخرها قتله وضربه ثوار التحرير مقابل ألفين من الجنيهات. وهو لازال يتخبط فى النفق الضيق، ولازالت أضلاعه تختلف، وصدره يضيق ويحرُج ، أطلت عليه رجلاه ويداه ورأسه وجلده وأعضاؤه ؛ كلها تحكى فى أصوات غليظة قبيحة كل ما كان منه ، خيانته وكذبه، كلامه وفكره ، وانضمت إليها الدقائق والثوانى والساعات والأيام ، تشهد عليه ، تبدأ بحسناته التى لا تكاد تبدو برغم مضاعفتها؛ ثم تلقى سيئاته على جدران النفق كرات من لهيب، وسلاسل من نار، وتلافيف من عذاب .. تضاعف الإحساس بالتخبط والضيق واختلاف الأضلاع ، وتزايدت الرائحة النتنة حتى ملأت عينيه وأذنيه ورأسه ، يحاول أن يصرخ ؛ فلا يستطيع، وبدا له النفق ممتداً إلى اللانهاية، وكلما تقدم فى مشيه عبره؛ كلما التفت رؤوس الوحوش حول رقابها، وتدافعت من قاع النفق شجرات قبيحة المنظر، كل غصن فيها يتفرع لآلاف الغصون، يقطر منها القيح، ثمارها عفنة كريهة الرائحة ، أحس بطعمها يملؤه بالقذارة والدمامة ، رأى كل ضربة ضربها لثائر شجرة زقوم بألف شجرة، وكل جنيه تلقاه ليثير الفوضى بألف ثمرة منتنة، وكل مال حرام كسبه جاء أخطبوطاً جهنميا بألف ذراع من نار ليشهد عليه .. فجأة اكتسى أفق النفق بميزان رهيب ، كفتاه أخذتا شكل أيام حياته، وبمجرد ظهور الميزان ؛ امتلأ الأفق بحسناته وسيئاته طيوراً هائلة؛ طغى قذرها وغليظها وحقيرها ونتنها على الأبيض منها، وتدافعت أعماله وأقواله وأفكاره بكل سرعة كلٌ إلى كفتها ، فهبطت كفة السيئات إلى أسفل سافلين ، وارتفعت كفة الحسنات إلى سقف النفق الضيق ثم تبخرت .. أليس لهذا العرض من نهاية ؟ إنه لم يغفل كلمة ولا نظرة ولا هفوة، إن كل ما فعلته حاضر أمامى، إننى أشهد على نفسى، ونفسى تشهد على بما فعلت، ظلمتك يا نفسى .. قالها لنفسه بصوت قبيح تردد فى جنبات النفق الضيق، ثم سمع صوت نفسه ترد عليه فى صوت أقبح: هذا مصيرك أيها البلطجي القاتل، غدوا وعشيا ستعرض عليه، إلى يوم القيامة .. ثم نار إلى الأبد .. نار إلى الأبد .. نار إلى الأبد .. أخذ يبحث عن أصابعه كى يعضها ندامة ؛ فلم يجدها ، وإنما لاح له من بعيد بعيد النفق المضئ الآخر .. تحجرت عيناه تحدقان فى الفراغ، تلفت أخوه بعيدا غير مبال، وخرج من الغرفة وهو يلعنه.. وأظلمت الدنيا .. إسلمي يا مصر