لا أعرف سببا وجيها لهذه الحالة التي مررت بها أمس الاربعاء 25 يناير ، ومبدئيا كان لابد لي أن أخذ هذا اليوم اجازة من العمل لأتابعه جيدا من بدايته لنهايته .. وخيرا فعلت ، فمنذ العاشرة صباحا وانا مرابض أمام شاشة التليفزيون أتنقل مابين قناة وأخرى إلى أن فوجئت بالساعة تشير إلى الثانية صباحا من اليوم التالي .. ودون إرادة مني وجدتني أبكي.. مأخوذا بهذا التلاحم البديع الرائع لشباب مصر ، وهذا التنظيم التحفة للمسيرات ، حيث هناك نقطة انطلاق من هنا وهناك، ونقطة التقاء عند مكان بعينه قرب الميدان للدخول إليه بكم رهيب من البشر ، يعطي رسالة محذرة لمن في وجهه عينان ولا يرى بهما ، وفي رأسه عقل لا يعرف كيف يستخدمه .. تجمعت مسيرات شبرا والعباسية ومدينة نصر وروكسي عند عبد المنعم رياض .. ونقطة التقاء الجيزة والهرم والعمرانية وجامعة القاهرة ومصطفى محمود عند دار الأوبرا على مدخل كوبري قصر النيل .. وهذا المشهد تحديدا هو الذي أبكاني ، حيث مئات الألوف فوق الكوبري تتدفق إلى ميدان التحرير لتعيد إلى ذهني المشهد عينه منذ عام ، يوم أجبر رجالة مصر وبناتها ، رجال الشرطة على الانسحاب بل الاستسلام .. فلا طاقة عندها ولا قدرة لمواجهة ثائرين لم يخرجوا في مظاهرة ليعودا إلى بيوتهم ، لكنهم خرجوا ليبقوا في الميدان حتى يخرج الطاغوت ونظامه ويرحلون إلى غير رجعة . وسأحاول أن أرصد لقطاتي الكثيرة المؤثرة من خلال مشاهداتي لهذا اليوم لأبث إليكم إحساس مصري مغترب ، يرى بلده تقوم مرة ثانية من غفوتها وتقسم بكل الأيمانات ، أن لاعودة هذه المرة إلا بأوامر صارمة .. ولا أقول شروطا أو طلبات. وقبل الأربعاء بيوم واحد .. لا يمكن بحال من الأحوال أن يمر هذا المشهد دون تعليق .. ودموع ساخنة سالت على خد من تسري في عروقه دماء. ( 1 ) .. مبارك لازم يتحط في السجن جلسة البرلمان الثانية وأكرم الشاعر والد مصعب الذي أصيب في جمعة الغضب ، ولا يزال يعالج في ألمانيا .. الأب النائب يبكي بإخلاص عجيب مؤثر لأقصى حد ، فلم يتمالك الكتاتني نفسه من شدة التأثر والرجل يقول : اشتقت لأبني في العيد فكلمته لأسمع صوته ، فتخيلت أباء وأمهات الشهداء ، لو اشتاقوا إلى أبنائهم ، فماذا يفعلون؟ .. كيف سمحنا لأنفسنا ورضينا بهذه المهزلة المسماة بمحاكمة القرن .. كيف استهان المجلس والحكومة بمشاعر أهالي الشهداء إلى هذا الحد المخجل والمخزي ، والاثنان " المجلس العسكري والحكومة " يدللان مبارك ويتعاملان معه كرئيس لا يزال على كرسي الرئاسة .. يهابونه ويعملون لغضبته ألف حساب.. ثم صرخ الرجل صرخة والله العظيم زلزلت مفاصلي : مبارك لازم يتحط في السجن .. لازم يتحط في السجن .. لازم يتحط في السجن. وفي نفس اليوم مساء أسمع الجميل بلال فضل يلّخص القضية في جملة واحدة : " حرارة مفقدش عينيه الاتنين عشان احنا نشوف طشاش .. لأ فقدهم عشان ينوّرعيوننا ونشوف طريقنا النهارده وبكرة 6 على 6 . ( 2 ) .. بوسة على إيد هذا العبقري العبقري الذي أطلق على المسيرات أسماء الشهداء عايز بوسة على إيده وراسه وعينه كمان .. إيه الجمال ده .. مسيرة خالد سعيد و" ماسك .. قناع " بوجهه الجميل المشرق على وجوه اخواته ، صبيان وبنات ، وكذلك مينا دانيال والشعار " يا خالد يا سعيد يا مينا يا دنيال .. الثورة مستمرة عشان دم الأبطال " .. ومسيرة الأزهر واسمها مسيرة الشيخ عماد.. وورود كلية طب عين شمس تخرج بمسيرة علاء عبد الهادي ، والتراس الاهلي والزمالك يخرجون بمسيرة محمد مصطفى .. ونصب تذكاري في وسط الميدان .. تحفة فنية رائعة يتزين بأسماء ودماء كل الذين استشهدوا ليهبوا لنا الحرية والكرامة العزة والإنسانية. وأسمع أم خالد سعيد.. الست الجميلة الأصيلة التي أكاد أجزم أنها الآن فعلا ليست بحزينة على موت ابنها.. فقد صار أيقونة الثورة ومفجّرها ، وسيخلد اسمه إلى الأبد .. تسألها مراسلة أحد البرامج : ليه يا أم خالد مارحتيش ميدان القائد ابراهيم في الاسكندرية لتتجنبي مشقة السفر؟ .. فترد : هناك ولادي وهنا ولادي .. بس ميدان التحرير هو الأصل.. هو الرمز .. هو شرارة الثورة ومعناها .. والأهم من ده كله .. لمّا أجي ميدان التحرير.. والله العظيم بشوف خالد ابني .. روحه طايرة ومهفهفة فوق الميدان وبيضحك لي .. وكأنه مش مصدق انه بموته.. أحيا أمة وأحيا وطنا. ( 3 ) .. رسالة من زوجة شهيد كتبت على صفحتها في الفيسبوك إلى زوجها الشهيد " خرجت من أجل الحرية ولم نرها .. ومن أجل الكرامة ولم نعشها ، ومن أجل عيش كريم لم نذقه .. تسألني بناتك عنك : بابا فين يا ماما ؟ .. مضطرة قلتهم الحقيقة.. عشان لمّا يكبروا يعرفوا يعني إيه مصر ، ويعني إيه تبقى حياتك رخيصة أوي قدام حياة بلدك .. حبيبي الغالي جوزي وابو عيالي .. نام وارتاح .. وحياة بناتي وبناتك .. حقك مش حيروح .. فانتظرني .. إما أن أتيك به ، أو أتيك شهيدة. هذه رسالة رانيا زوجة الشهيد طارق ألقتها دامعة ريم ماجد وهى تسأل بصدق بالغ الزوجة البطلة : جبتي القوة دي كلها منين .. فتشير بإصبعها للسماء، ودمعة حارة في العين تأبى أن تسيل.. وتقول : مش هاعيط دلوقتي .. الدموع في عيني تملأ نهرا ، لكنني أحبسها لحد ما جيب حق طارق ، واخد عزاه. ( 4 ) .. احنا اللي روّحنا بدري .. بس مش اكتر واسمع الثائر بحق تميم البرغوتي في رائعته الجديدة : منصورة يا مصر مش بجميلة العسكر .. احنا اللي روّحنا بدري .. بس مش اكتر .. قصر الرياسة مافيش بينك وبينه كتير .. فيه سلك شائك وكيس رمل وكشك غفير .. لو جيت لوحدك حيضرب والرقاب حتطير .. وان رحت مليون حيهرب وانت تبقى أمير. ( 5 ) .. أجمل بلطجية شفتها في حياتي منى الشاذلي وفرحة كبيرة على الوجه وعيناها تلمعان بالدموع : مش مصدقة .. وماكنتش متخيلة إن ممكن الميدان يتملي تاني .. إيه الناس الحلوة دي .. إيه الولاد العسل دول .. وإيه البنات الجدعة دي .. إيه النور ده كله .. إيه العظمة دي كلها يا مصر .. ينصرك يارب وينصر دين ولادك اللي زي الورد .. وريم ماجد بانتشاء مبهر: ميادين مصر تشرح القلب الحزين.. والله واتجمعنا تاني يا قمر .. ودينا عبد الرحمن باعتزاز شديد : هى دي مصر بجد .. هي دي مصر اللي احنا عايزنها .. ثم سخرية يسري فوده الجميلة التي أضحكتني من قلبي : إلى كل الذين ظنوا أن جذوة الثورة قد خبُتت أقول لهم :. صباح الفل!. وصباح الفل على الناس الحلوين وصباح الورد على الرجالة اللي بحق وصباح الياسمين على البنات " السكرة " ، وصباحك عنب يا أجمل طفلة رأيتها في حياتي ، وأنت على كتف أبيك وتهتفين وعلم مصرك في يدك ونور الدنيا مشرق في وجهك : قلنا خلاص فهمونا وهانت .. قالوا علينا بلطجية . قبلة على رأسك ورأس اللي خلفوكي .. يا أجمل " بلطجية " شفتها في حياتي.