إذا كنت تعتبر التفاؤل بلاهة، فأنت تقرأ الآن لرجل اختار البلاهة قدَرا، أطلع من نقرة لأقع فى دحديرة دون أن أكفّ عن التفاؤل وحسن الظن، ولذلك ظننت، وبعض الظن إثم، وبعضه عبط، أن المجلس العسكرى اختار الأستاذين الكبيرين إبراهيم عيسى ومنى الشاذلى للقاء بأعضائه على الهواء مباشرة لإصدار قرارات تاريخية تلم شعث المصريين وتطيّب خواطرهم وتنير لهم حلكة الأيام السوداء التى يتخبطون فيها، لكننى اكتشفت بعد ساعات ضاعت من عمرى وأعمار كل من شارك فى الحلقة أو شاهدها أن المجلس كان يمكن أن يستعيض عن كل هذا الكلام بإصدار بيان جديد من سطر واحد يقول فيه «ليس بالإمكان أبدع مما كان، والله الموفق والمستعان». الحلقة لم تكن مخيبة للآمال فى ما انتهت به من إجابات لم تجب عن شىء، بل منذ أن بدأ تقديمها بطريقة كشفت أن اجتماع الأستاذين إبراهيم ومنى لم يكن من خلال توافق بينهما، بل كان رغبة من المجلس نفسه، وهو ما يدل على أنه فقد حتى الرؤية فى اختيار من يستطيع أن يحاوره بشكل متجانس لا يؤدى إلى توتير المشاهدين، خصوصا إذا كان حاصل ما سيخرج به إعلاميان قديران فى النهاية من المجلس صفرا كبيرا، بعد سبق إصرار وترصد من المجلس. فى بداية الحلقة قلت مازحا إننى لم أعد أخشى من الوقيعة بين المجلس والشعب، بقدر ما أخشى من الوقيعة بين إبراهيم عيسى ومنى الشاذلى. ومع نهايتها المرتبكة المتعددة قلت آسفا إذا كنا لم نستطع أن ننهى حلقة المجلس العسكرى بسرعة فكيف سننهى إذن الفترة الانتقالية بسرعة؟ من الناحية المنطقية البحتة يبدو كل ما قاله اللواءان محمد العصار ومحمود حجازى فى الحلقة يحمل وجهة نظر، لكنه يحتاج فقط إلى واقع آخر وبلد آخر وظروف أخرى وأجيال أخرى، ببساطة هذه حلقة لو شاهدها شاب من شباب الثورة لاستعار من الخال الأبنودى صرخته القديمة وهتف «يا جناب الضابط، إحنا جيلين جيلين جيلين، عقليتين روحين، فهمين إيقاعين فكرين، شوف الأول فين وشوف التانى فين». الشباب يريد إسقاط النظام، والمجلس يريد إسقاط النفوس. هذه هى المشكلة التى سيتبدى لك عمقها عندما تستمع إلى كلام اللواء حجازى عن ضرورة الثورة على النفوس وتغييرها وإصلاحها، وهو كلام أتمنى أن يتم تسجيله على شرائط توزع على كل أفراد الشرطة العسكرية التى لو كانت قد بذلت منذ بداية الثورة مجهودا للسيطرة على نفسها لكنا قد تجنبنا مواجهات كثيرة لم يدفع ثمنها إلا الوطن الذى بدأ أهله الفترة الانتقالية بطاقة إيجابية محلّقة جعلت الناس عازمين على تغيير أنفسهم بأكثر ما تمناه اللواء حجازى، بينما هم الآن لا يملكون سوى تغيير القناة التى يتحدث فيها اللواء حجازى رغم أنه كان صادقا وحماسيا وهو يتكلم، لكن كلامه المستمر عن عصر النهضة الذى ستدخله مصر كان يجعلنى دائما أتذكر مدينة النهضة وحالها الذى لا علاقة له باسم النهضة. زمان مع بداية هذه الفترة البائخة كان بعضنا قد أدرك مبكرا أن مشكلة البلاد تكمن فى طريقة إدارة المجلس العسكرى لها، وبعض هذا البعض كان يعتبر ذلك مقصودا ومتعمدا لإجهاض الثورة، لم أكن من أولئك البعض، وما زلت، ليس رغبة فى مجاملة المجلس، بل عن قناعة أنه لا يمكن لأحد أن يتآمر ضد نفسه بهذا الشكل، خصوصا عندما ينصحك ولاد الذين أن تقدم غيرك ككبش فداء لكى تنفى كونك أنت المشكلة فترفض بإباء وشمم، لكى تلفت انتباه الجميع إلى أنك أنت المشكلة دون غيرك. نعم، أنا من البعض الذى أدرك منذ البداية أنه لا يوجد بديل عن الصبر على المجلس العسكرى لعبور الفترة الانتقالية وأنه لا جدوى من الصدام معه، لأن الناس لو خيرتها بين حالة الفوضى وحكم العسكر فستختار بالتأكيد حكم العسكر، قلت ذلك مرارا وتكرارا فأغضب منى ثوارا كثيرين هم أقرب إلىّ بالتأكيد من كل ما على الأرض من لواءات، بعض هؤلاء يدركون الآن أن كلامى كان صحيحا، وبعضهم لا يزالون يعتبرون أنه كان خاطئا، بل وكان خطيئة، لكننى لا أزال متمسكا بما آمنت به، لا يوجد بديل عن رحيل المجلس العسكرى بالانتخابات، وأى صدام معه لن يكون فى مصلحة الثورة خصوصا وقد بدا أن الحشد الثورى الذى انتصرت به الثورة لم يعد قادرا على البقاء بنفس زخمه. ربما لذلك جاءت رسالة اللواء العصّار فى نهاية سهرة الكلام الساكت واضحة وقوية «على شباب الثورة أن ينخرطوا فى العمل السياسى»، مقدما لهم ما تصور أنه حوافز تتعلق بطباعة الملصقات ودفع الرسوم، وهو ما كشف عن الطريقة الأبوية التى لا يزال المجلس يتعامل بها مع هذا الجيل الثائر دون أن يدرك أن من سيحصل منه على الدعم والملصقات شباب أغلبه ليس له علاقة بما يواجه المجلس من مشكلات وتوترات، وأنه لن يحل بذلك مشكلة هتاف «يسقط يسقط حكم العسكر»، هو تصور فقط أنه قام بحلها، وعندما سيندهش لأنها ما زالت باقية لن يجد أمامه سوى نظريات المؤامرة التى تغذيها بعض الحقائق المختلطة بكثير من الأكاذيب الأمنية. كنت أتمنى أن ينتبه اللواء العصار لأن الشباب الثائر كان سينخرط فى الحياة السياسية لو توقفتم عن خرطهم فى النيابة العسكرية وتحت أقدام الشرطة العسكرية، ببساطة لا تخرطنى لكى أنخرط، عندما تعتقل على سبيل الحسرة لا الحصر فى صباح اليوم الذى أذيع فيه البرنامج أو أضيع فيه البرنامج بمعنى أصح شابا من حركة ستة أبريل لأنه يقوم برسم جرافيتى على حائط يدعو لمقاطعة رموز الحزب الوطنى المنحلّ فى الانتخابات، فأنت لا تشجعنى بذلك على الانخراط فى الحياة السياسية، عندما تقمعنى فى كل جامعة وفى كل شارع وفى كل ميدان فأنت تجعلنى أشعر أننى لو نجوت من المدرعة سأقع فى المخرطة، أنت تقولها لى بمتدارى العبارة: انخرطوا أو موتوا. طيب، والحل، والعمل، والخلاصة، بص يا سيدى، الخلاصة أنا قلتها فور أن بدأ اللواء محمود حجازى يحكى حكايات رائعة عن تكاتف الشعب مع الجيش فى حرب أكتوبر، ليس لأننى ضد تلك الحكايات، فأنا أعشقها وأعرف منها الكثير وقدمت بعضها فى برامج شاركت فيها بالإعداد والتقديم، وكتبت عن بعضها الآخر بكل فخر وتقدير، لكننى كنت أتمنى أن أسمعها منه فى سهرة خاصة عن حرب أكتوبر، لا فى برنامج انتظر منه الملايين أن يعرفوا رأسهم من رجليهم، فأصبحوا لا يعرفون رأسهم ولا يعرفون رجليهم ولا حتى إيديهم. الخلاصة قلتها وأقولها مجددا «كمّلها بالستر من عندك يا رب.. اعدلونا على الانتخابات».