السؤال الذى طرح نفسه وبقوة خلال العقود الثلاثة الماضية هو: هل مصر مستهدفة ؟ هل هناك قوى خارجية تتربص بمصر وتنصب لأهلها المكائد ؟ هل هناك من يتربص بحكوماتها ويقلل من شأن إنجازاتها ؟ هل هناك من خارج مصر من يحيك المؤامرات ضدها ؟ هل مصر قوية ومؤثرة فى العالم من حولها إلى الدرجة التى تثير حقد الحاقدين وحسد الحاسدين ؟ هل لديها من الثروات والإمكانات ما يثير غيرة البلاد الأخرى فيكيدوا لها ويسعوا فى خرابها ؟ إن مصر - كما قال الأستاذ إبراهيم عيسى فى عدد من مقالاته بعيدا عن تاريخها العظيم والمجيد ليست قوية لا فى الاقتصاد أو فى الديمقراطية ، ولا فى العلوم أو الطب ، ولا فى التكنولوجيا أو الهندسة ، ولا يتمتع أبناؤها بالصحة الجسدية ، بل ينحرهم ليل نهار فيروس سى والأسمدة المسرطنة والماء الملوث بالمجارى والفشل الكبدى والكلوى وحوادث الطرق ، فلماذا بعد كل هذا العجز تكون مصر مستهدفة ؟ الإجابة على هذا السؤال تستوجب البحث عن إجابة لسؤالين آخرين: لماذا استهدف العراق، ولماذا كل ما نراه من التربص لإيران والمحاولات التى تقوم بها القوى المختلفة للإيقاع بها ؟ إن الإجابة على هذين السؤالين واحدة: أن هذين البلدين المسلمين كانا فيما سبق وحدة جغرافية سياسية واحدة ؛ الإمبراطورية الفارسية التى كانت تمتد من وسط آسيا حتى غرب البحر الأسود مرورا بشمال شبه الجزيرة العربية والشام وفلسطين ومصر ، أما لماذا استهدفت بلاد فارس ؛ فالجواب هو بسؤال آخر ؛ هل يمكن أن يبلغ الحقد التاريخى بقوم ألا ينسوا الإساءة برغم مرور آلاف السنين على أحداثها وفصولها ؟ أجل .. اليهود لم ينسوا ما فعله بهم ملوك فارس قبل الميلاد ، ففى عام 722 ق م ؛ عندما قرر ملوك إسرائيل عدم دفع الجزية لملك آشور فلازار ، زحفت جيوش آشور لتسحق كل مقاومة فى طريقها وتسقط السامرّة عاصمة مملكة إسرائيل لتصبح إقليم السامرة الآشورى ، وبذلك لم يعد لإسرائيل وجود ، حتى انهارت الامبراطورية الآشورية بتخريب عاصمتها نينوى عام 612 ق م . وفى عام 605 ق م ؛ حاول الفرعون المصرى نخاو الاستيلاء على فلسطين وسوريا ، فهزمته جيوش الملك البابلى نبوخذ نصر ، وقد ورد فى سفر أرمياء فى العهد القديم أن أرمياء حذر ملوك مملكة يهوذا من الاستعانة بالمصريين لمحاربة البابليين ، ولم يستمع ملكهم إلى النصيحة وطلب مساعدة مصر ، فحاصرت جيوش نبوخذ نصر أورشليم واستولى عليها الملك البابلى عام 587 ق م ، وهدم المدينة عن آخرها ، وأحرق معبد سليمان ، واختفت مملكة يهوذا بدورها من الوجود ، وسيق اليهود أسرى مربوطين فى السلاسل والأغلال إلى بابل ، فيما سمى بالأسر البابلى. وكانت تلك الحظة الحاسمة فى تاريخ اليهود السياسى والدينى ، فالذى اختفى من الوجود هو مملكة داود ؛ مناط الوعد الإلهى فى التوراة . ولقد ذكر القرآن هذا الحدث الهام فى آياته ، يقول الله تعالى: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ) – الإسراء 4 – 7 فى هذه الآيات الكريمة يتحدث القرآن أولا عن وجود هذا الإعلام الإلهى فى الكتاب ، أى فى التوراة التى كانت بين أيدى اليهود ، والذى لا بد أن يكون اليهود على علم به ووعى كامل بتفاصيله ، المرة الأولى التى تتحدث عنها الآيات يُرجح أنها القضاء على دولة اليهود فى فلسطين على يد ملوك بابل وآشور ، إذ إنه كان أمرا مفعولا أى حدث بالفعل ، ثم يتابع النص القرآنى إعلامه بالمستقبل ؛ أن من سيقضى عليهم فى المرة الثانية - التى لم يأت موعدها بعد - هم أنفسهم عباد الله أولى البأس الشديد الذين سحقوا دولتهم وأزالوها فى المرة الأولى . ولا شك أن يهود اليوم يدركون صدق الوعد الإلهى ، ومتأكدون من حتمية وقوعه ، لذلك فهم يحاولون بكل طاقاتهم إبعاد شبح النهاية عن واقعهم ، وهو ما فعلوه مع العراق ، وما يتمنون فعله مع إيران ، الدولتين اللتين لا زالتا تحملان ملامح الامبراطورية الفارسية البائدة ، وتقعان داخل حدودها التاريخية . أما مع مصر فالأمر مختلف ، فاليهود دخلوا مصر للمرة الأولى على عهد حكم ملوك الهكسوس ، حين استقدمهم عزيزها يوسف عليه السلام ، فأتى بأبيه وأمه وإخوته وأهلهم أجمعين ، وتكاثروا فى مصر وتناسلوا ، وعملوا وتاجروا ، فلما قضى أحمس الأول على دولة الهكسوس وأعاد إليها حكم الفراعنة ؛ تغيرت أحوال اليهود ، فعملوا فى الوظائف الدنيا خدما وعمالا لدى المصريين ، إلى أن جاء عصر الرعامسة وثالث فراعنتهم رمسيس الثانى الذى حكم مصر لثمان وستين سنة ، عاش اليهود خلالها أسود سنوات حياتهم ، فقد استعبدهم الفرعون المصرى وسامهم سوء العذاب ، فقتّل أبناءهم وأبقى على نسائهم ، وأهانهم وعزلهم فى (جاسان) فى محافظة الشرقية حاليا فلما أرسل الله موسى عليه السلام ؛ كان الهدف من رسالته دعوة فرعون وملإه إلى الإسلام ، وإخراج بنى إسرائيل من مصر ، وقد كان ، وخرج بهم موسى من مصر عبر شق البحر إلى شبه جزيرة سيناء ؛ فى مصر أيضا ، حيث عصوا نبيهم وقضوا فى تيه جبال سيناء أربعين عاما ، حتى مات موسى والجيل الذى عصى . المهم فى هذا الاستعراض السريع لتاريخ اليهود القديم فى مصر هو أنهم عانوا أشد المعاناة من قسوة حكام مصر الفراعنة عليهم ، وهم حتى أيامنا هذه لم ينسوا إهانتهم واستعبادهم وتقتيلهم فى مصر ، تماما كما حدث لهم من ملوك فارس ؛ الآشوريين والبابليين ، وليس أدل على هذه الحقيقة من أن شعار دولة إسرائيل المزعومة هو (من الفرات إلى النيل) ، الفرات فى أرض فارس ، والنيل فى مصر ، وعلم الدولة هو الخطان الأزرقان وبينهما نجمة داود السداسية ، وهذان الخطان يرمزان للنهرين الفرات والنيل ، وإسرائيل بينهما . ونتساءل .. هل يمكن أن يبلغ الحقد التاريخى بقوم هذا المبلغ البشع ؟ ألا ينسوا ما حدث لهم منذ آلاف السنين ؟ ويقضون حياتهم موتورين راغبين فى الانتقام ؟ أكثر من ثلاثين قرنا وهم يتوارثون حالة الانتقام من أهل مصر وأهل فارس ، وضعا فى الاعتبار الظروف التاريخية التى عاصروها ومروا بها مع كلا الشعبين ، ففى مصر ؛ ما فتئ قادتهم كأسلافهم يهددون بضرب السد العالى لإغراق مصر ، وما قتل الأسرى المصريين على أيدى قادة إسرائيل الحاليين ودفنهم أحياء فى سيناء ببعيد ، وبرغم المعاهدات والاتفاقيات المكبلة لقيادات وشعب مصر ؛ فلا زالت أجهزة المخابرات حتى وقت قريب تكشف جواسيس لإسرائيل يعملون فى مصر ، ولا زالت الحدود المصرية مع إسرائيل هى المدخل الرئيس للمخدرات إلى مصر ، ولا زالت فنادق جنوبسيناء تمتلئ بهم وتزخر فى أعيادهم بالموبقات والإيدز وممارسة الطقوس الشاذة ، وبالقرب من حدود مصر يهدر مفاعل ديمونة ، وتوجه إلى أرضها أكثر من مائتين من الصواريخ ذات الرؤوس النووية ، ولم تكن حرب غزة الأخيرة إلا للقضاء على سطوة مصر وإظهار عجزها عن السيطرة على هذا الجزء من أرضها التاريخية . أما فى العراق وإيران ، فحدث ولا حرج ، فعراق الأمس ما عاد موجودا بعد أن دمرته الآلة العسكرية الأمريكية الصهيونية اليهودية وأرجعته إلى عصور ما قبل التاريخ ، متذرعين تارة بأسلحة الدمار الشامل ، وأخرى برعاية وإيواء الإرهابيين ، ومستندين أولا وأخيرا على عملائهم من الخونة الذين باعوا العراق وسلموه للغزاة ، وإيران اليوم والغد يجب أن تخضع للأوامر والشروط الأمريكية الأوروبية ، التى ليست إلا شروطا وإملاءات إسرائيلية ، والتهديد كل حين بتوجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية هو تهديد إسرائيلى ، ومحاولة إثارة القلاقل والاضطرابات فى أعقاب انتخاباتهم الرئاسية ، هى قطعا محاولة إسرائيلية نفذتها الأموال الأمريكية بأيد إيرانية عميلة وخائنة . إن اليهود اليوم يحاولون بشتى الطرق تحدى إرادة الله تعالى التى أخبرهم بها فى التوراة وذكرها فى القرآن ، أن القضاء عليهم وإنهاء وجودهم سيكون على أيدى عباده أولى البأس الشديد الذين سيدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة ، ولكن محاولاتهم القادرة علينا الآن لن تجدى مع قدرة الله شيئا ، فالله من ورائهم محيط ، وهو على كل شئ قدير... واسلمي يا مصر.