ما نراه على شاشات الأخبار عما يحدث في سوريا تقشعر له الأبدان ، فالجيش الباسل استخدم العنف في قمع المظاهرات بالقتل والقنص والتنكيل وقنابل الغاز والحصار والتجويع ، واستُقدم (الشبيحة) ؛ وهم المرادف السوري للبلطجية المصريين والبلاطجة اليمنيين والمغاوير العراقيين ؛ ليقوموا بنفس الدور الذي قام به أقرانهم في مصر واليمن والعراق ، وأطل علينا نوعان من الأخبار ؛ ما تذيعه نشرات الأنباء الرسمية ، والأخرى ما تتناقله وكالات الأنباء الدولية ، فمثلا .. هذه الأخرى أذاعت نبأ مقتل ما يزيد على المائة شخص على يد رجال الأمن والشبيحة التابعين لأجهزة أمن الأسد ، وكانت الرواية الرسمية هي أن قوات الأمن ضبطت مع إحدى الخلايا النائمة المندسة زجاجات مملوءة بالدم تستخدم في فبركة أفلام الفيديو عن القتلى ، لأنه بزعمهم لا يوجد قتلى بين المدنيين ، وإنما كل القتلى هم من رجال الأمن والجيش الذين قضوا على أيدي الجماعات المسلحة ، وبينما تعالت أصوات المتظاهرين في كل أنحاء سوريا مطالبة الرئيس بالرحيل وإسقاط النظام ، وأثناء تشييع جنازات الشهداء ؛ لم تتوان قوات الأمن عن ضرب المشيعين بالرصاص الحي فيقتل آخرون. وبينما كان عشرات الآلاف يتظاهرون في حي الميدان في قلب دمشق مطالبين بإسقاط النظام ؛ طلعت علينا الرواية الرسمية في القنوات الحكومية أن هؤلاء المتجمهرين خرجوا عن بكرة أبيهم يحمدون الله على هطول المطر ! وهكذا تمر الأمور كما مرت عندنا في مصر أيام الثورة المبروكة ، وفي ثورة تونس، وفي ثورة اليمن، رواية رسمية تناقض تماما أخرى شعبية حقيقية ، وكلتاهما تتهم الأخرى بالتزوير والتزييف ويدعي رواتها أنها هي الحقيقة. وفي هذه البلاد الأربعة قامت الثورات متعاقبة بدأت تنادي ببعض المطالب الاجتماعية ، ثم اندلعت نيرانها بعد أقل من أسبوع مطالبة بسقوط النظام ورحيل الرئيس ، واستخدم الأمن ذات الطريقة فكانت نفس النتيجة ، وهو ما دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بتدخل أيدي خارجية تعبث بأمن الوطن ، هنا حماس وحزب الله ، وفي سوريا هناك إسرائيل والقوى الصهيونية الإمبريالية ، وأن ما يحدث هو مؤامرة مدبرة ضد مصلحة الشعب لا يدرك الشعب أبعادها لأنه في كل الحالات شعب أهبل وغبي ، لا يعرف أن مصلحته وضمان مستقبله في بقاء الرئيس الأوحد على مقعد الحكم ، وبقاء نظامه إلى أبد الآبدين . ومع تعاظم أعداد الثائرين وذيوع أخبار ما يحدث في سوريا في العالم كله ؛ يكبر السؤال ويزداد إلحاحه .. همّة بيعملوا كده ليه ؟ لماذا يتمسكون بكراسي الحكم ومقاعد السلطة ، لا يألون على شئ ؟ هل يصدقون أنفسهم فعلا بأنهم لا مثيل لهم ولا بديل ؟ طبعا .. شهوة الحكم لا تعادلها شهوة ، ولا تدانيها في تملكها لمن تصيبه غريزة ، ولكن .. لماذا لا تدخل التاريخ يا سيادة الرئيس - أي رئيس - من باب مَن تنازل عن السلطة بمحض إرادته وحقَن دماء الناس ؟ لماذا تصر هذا الإصرار الغريب على أن تدخل التاريخ من باب المطرودين المخلوعين ؟ ألا ترى الفرق بين البابين ؟ الأول باب تحفه الورود ويقف أفراد الشعب طول الطريق المؤدية إليه يحيونك ويشكرونك ويحمدون تصرفك بأن حقنت دماءهم ، وبينت لهم أنك لم تسع يوما إلى سلطة زائلة ، وأنك كنت ولا زلت رهن إشارة الوطن و(تحت أمره) ، أما الباب الآخر فمحاط بالأشواك واللعنات من كل جانب ، وفيه ما فيه من تحقيقات ومحاكمات واحتمالات إدانة قوية وسجن أو إعدام ، فأي البابين لدخول التاريخ تختار ؟ قد لا يصدق الرئيس العربي إلا حديث المنافقين والمتسلقين المتحلقين حوله . وقد لا يستمع إلا إلى لاعقي أحذيته والمستفيدين من حكمه حين يصورون له أنه الزعيم الأوحد والحكيم الأمجد ، وأن المعارضة في الشارع ما هي إلا عناصر مندسة وخلايا مأجورة وشلل حرامية سيتعامل الأمن معها بما يكفل وأدها وإجهاض مخططاتها ، ولا خوف على سيادته أو حكم سيادته من هذه الحثالة لأن الشعب يحبه ! وهذا المنطق البوليسي أورد كل الأنظمة الديكتاتورية المسيطرة على شعوبها موارد الهلاك، فالشعب المغيب اللاهي الذي يظن الديكتاتور أنه مات ؛ يستيقظ فجأة من غفوته وإغماءته وينبعث كالعنقاء من تحت الرماد ، وإذا به يثور ويطالب بإسقاط النظام ويقدم الشهداء . ولا يتعظ أو يعتبر رئيسٌ من سابقيه ، بل يظن دائما أنه مختلف عمن عداه من الرؤساء ، ونظامه يعتمد على قاعدة شعبية تضمن بقاءه على قمة السلطة ، وهذا التوهم هو الذي يجعلهم يهولون ويضخمون من قيمتهم، فمنهم من يحذر من حدوث الفوضى إن رحل ، وآخر يخوف من الفتنة الطائفية ، وثالث ينذر باشتعال حرب أهلية ، ويستمر الشعب في ثورته حتى يخلع رئيسه ويُدخله من باب التاريخ الذي يستحق ، متبوعا باللعنات ، ويداه ملطختان بدماء أبناء الشعب الثائر ، فهل يتعظ الرؤساء ؟ واسلمي يا مصر ..