كانت الثورة تدور رحاها علي كل شبر من أرض مصر، و جهاز مباحث أمن الدولة لا شأن له بما يحدث!. كان يقوم بواجبه المعتاد في التآمر و تلفيق التهم و تدبير المكائد و التنصت علي الناس و إعداد التقارير الكاذبة. و كان رجاله يذهبون لمكاتبهم و كأن شيئاً لا يحدث. ثم سقط رأس النظام تحت معاول الثوار و لاذ بمملكته الأثيرة في شرم الشيخ و بدأ فجر جديد يشرق علي الناس..و لكن أمن الدولة ظل كما هو يؤدي واجبه المقدس في نشر الخراب في ربوع الوطن، و لم يتأثر أو يهتز بالضربات التي راحت تدق رؤوس المجرمين من عصابة مبارك. أمسك المجلس العسكري بزمام الأمور ثم أوكل إلي أحمد شفيق الاستمرار في رئاسة الوزارة و أتي هذا بالدكتور يحيي الجمل في وظيفة بروتوكولية مضحكة بدون صلاحيات اسمها نائب رئيس الوزراء، و بدأ الناس يتطلعون بين اليأس و الرجاء إلي خطوات الحكومة المهتزة..و ظل أمن الدولة وسط كل هذا ثابت علي المبدأ يحرض علي الثورة المضادة و يجند البلطجية للإندساس وسط الثوار و إشاعة الذعر بين الناس. أثبت الجهاز إذن صلابة فائقة و قدرة علي تجاهل ما يحدث في الملعب المصري و برهن علي عقيدة لا تعرف الإنكسار في العمل كتنظيم إرهابي مسلح، لدرجة أن الناس في الشارع أحست أن هذا الجهاز لن يتغير و لن يرحل حتي لو سقطت عليه القنابل النووية من السماء!. لكن سبحان الله!..ما إن تمت إقالة السيد أحمد شفيق من رئاسة الوزراء و اختار الشعب الدكتور عصام شرف ليحل محله حتي حدث ما لم يكن في الحسبان...كل فروع و أقسام أمن الدولة في جميع أنحاء البلاد قامت في نفس اللحظة و بإشارة من نفس المايسترو بالتحرك لإحراق و فرم و إعدام كل الوثائق و الملفات الموجودة لديهم في عملية تفوق في حقارتها و خستها كل ما ارتكبوه في السابق من جرائم!. و هذا الموقف المفاجيء كان بالغ الدلالة علي أن هذا الجهاز لم يشعر بالتهديد من وزارة أحمد شفيق و لا من اللواء محمود وجدي و لا من الدكتور يحيي الجمل و لا من كل لجان الحكماء، بل أخذ في كنفهم يعمل مطمئناً إلي أنه و مع كل ممارساته الدموية سيظل بعيداً كل البعد عن الحساب و المساءلة. و لهذا لم يتورع رجال الشرطة في استعراض قوتهم كالمعتاد و استهانتهم بالقانون كالمعتاد، فقام ضابط شرطة مخمور في المعادي بإطلاق الرصاص علي سائق سيارة أجرة، كما قام ضابط آخر بإطلاق الرصاص علي مواطن بالعمرانية، و الأهم من هذا قام مدير أمن سافل و منحرف بسب المصريين و تهديدهم بأنه سيقطع يد أي "عرص" من شعب مصر يتطاول علي أسياده الضباط!. كل هذا حدث بينما السيد شفيق رئيساً للوزراء و السيد يحيي الجمل نائباً لسيادته و السيد محمود وجدي وزيراً للداخلية. لكن التغير الدراماتيكي الذي أصاب جهاز الشرطة بالهلع و في طليعته مباحث أمن الدولة حدث بمجرد أن اختار الشعب المصري رئيس وزارة يثق به و يطمئن إليه.هنا أدرك المجرمون أن المظلة سقطت و أنهم لن يستطيعوا العمل إلا وفقاً للقانون!. إن هذه المفارقة تلقي الضوء علي اكتشاف باهر مؤداه أن جهاز الشرطة يلزم حدوده و يتوقف عن الجريمة بمجرد أن يصل إلي السلطة رجل شريف من اختيار الناس و ليس شخصاً مفروضاً عليهم..يدركون في هذه الحالة أن الرجل الشريف لن يتستر علي جرائمهم و لن يتواطأ علي دم الشهداء الذين يقتلونهم و لن يكون سداً منيعاً يمنع مثولهم أمام جهات التحقيق، فلا يجدون و الحال هكذا سوي أن يحرقوا الملفات التي تحوي جرائمهم و يفرموا الأوراق التي من شأنها أن تدخلهم السجن، ثم يأخذوا في الهرب من الشبابيك و الأبواب الخلفية متوارين عن الأنظار بعد أن اتضح لهم أن الزمن لم يعد زمنهم. يا الله..كل هذا حدث بمجرد اختيار الناس بإرادتهم الحرة لرئيس وزراء شريف؟. ماذا سيفعلون إذن عندما يختار شعب مصر رئيس جمهورية شريفاً و مجلساً تشريعياً خالياً من المجرمين؟. إن هذا لو حدث فإن أي مدير أمن "عرص" و رجاله الذين يشبهونه سيكون مكانهم الطبيعي هو السجن..و لن يبقي معنا غير رجال الشرطة الشرفاء الذين نستحقهم و يستحقوننا.. و هذا شيء يفوق الخيال!.