عندما تعاظم الضغط عل الرئيس حسني مبارك من أصدقائه السابقين في الخارج ولم يبد الشباب المصري بادرة تنازل عن مطلبي رحيله وإسقاط النظام، في يوم التظاهرة المليونية، لم يجد الرئيس بدا من الاستجابة لكنه استمر في التسويف والمماطلة. فعرض ألا يرشح نفسه لمدة رئاسة سادسة (!) (وإن بعبارات غامضة تنم عن النية في الماضي، وليس العزم أو الوعد، ودون أن ينفي إمكان ترشح نجله)، وأن يتعهد بالإشراف على تحقق بعض الإصلاحات الدستورية والتشريعية والسياسية التي طالما طالبت بها الحركة الوطنية وأكدها شباب ثورة الفل (ومنها تخفيف القيود في شروط الترشح للرئاسة (من خلال المادة 76 سيئة السمعة)، وتعديل المادة 77، لقصر ولاية الرئيس على مدتين متتاليتين فقط). لكن الرئيس تفادى مطلب القوى الوطنية بالتخلص من القيود على الحرية التي أدخلها هو في قلب الدستور كما تفادى مطلب إلغاء السلطات المطلقة التي يكفلها الدستور المعيب القائم لرئيس الجمهورية، ما يعني الإبقاء على جوهر الحكم التسلطي في الدستور. ومغزى هذا الموقف أن يحتفظ الرئيس بصلاحياته المطلقة لمدة تزيد على سبعة شهور أخرى، ويُبقى أي من يخلفه في سدة الرئاسة قابلا للتحول إلى متسلط مستبد وفاسد (من حيث أن السلطة مفسدة وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة)، وهذا هو الخطر الأعظم. ومن الضروري ملاحظة أن هذه الإصلاحات التي عرض، ظل هو نفسه أطول من ثلاثين عاما من حكمه يلتف حولها وينقلب عليها بل ويشرِّع لضدها، كما عرض الرئيس أن يجري حساب المفسدين شاملا من تسبب في الفجوة الأمنية التي أدت إلى اندلاع أحداث النهب والتخريب يوم الجمعة 28 يناير، وهل من غيره مسئول عنها؟ فالجدير بالتذكر هنا هو أن رئيس الدولة، وفق الدستور المعيب القائم، هو رأس السلطة التنفيذية، والوزراء بنص الدستور مجرد معاونين، ومن ثم يتحمل الرئيس مغبة قرارات مرؤوسيه.من الوزراء الذين يعيَّن لمساعدته. وكل ذلك في المدة الباقية من ولايته الحالية!! ولا يمكن منطقيا استبعاد دور تصلب الشرايين في إنتاج هذا النمط من السلوك المتباطئ والعنيد، والرجل في عقده التاسع. إلا أن الخشية، كل الخشية، أن يستغل الرئيس المتصلب المراوغ سلطاته المطلقة في الشهور القادمة وتجييش من يأتمرون بأمره لشن ثورة مضادة لثورة الفل مما يوقع الفرقة، وربما الاقتتال بين شباب ثورة الفل والجيش وبين مناصري الرئيس المأجورين وقوات أمنه. والحق أن ثورته المضادة قد بدأت فعلا في اليوم التالي لخطابه مباشرة، بإدخال شقاة صعاليك مأجورين- من صنف ما اعتاد نظام الرئيس توظيفهم في سياق ظاهرة البلطجة الدنيئة التي أدخلها نظامه على الشارع السياسي في ظل الفكر الجديد لحزبه في حقبة صعود نجله أمين السياسات بذلك الحزب- بغرض الاشتباك العنيف مع شباب الثورة في ميدان التحرير، ما يدل على اكتمال المؤامرة التي كانت مبيته على الثورة الشعبية قبل إعلان مشروع الرئيس، الأمر الذي ينفي أي مصداقية لمقترح الرئيس ويحجب أي ثقة عن الرئيس ونظامه، نهائيا. لقد اختار الرئيس مواجهة الشعب بالعنف الخسيس، ويبدو أن المشيئة قد قضت بحرمانه من خروج كريم.