يناير أقسى الشهور. ليست مفتتح قصيدة إليوت الشهيرة (الأرض الخراب)، لأن إليوت بدأها بإبريل، ولأن بيننا ما يزال مسافة تقصر كل يوم وبين الأرض الخراب. فهل نفيق قبل أن يفوت الأوان؟ يناير أقسى الشهور لأنه الشهر الذي شهد انتفاضة مصر المجهضة عام 77، ومن حينها لم ننتفض. وهو أقسى الشهور لأنه شهد وإلى الأبد سحق العروبة عام 91 حين عاقب العالم كله العرب كلهم على فعلة صدام الخرقاء في الكويت. وهو أقسى الشهور في مخاض تونسي تنتظر فيه أمة بكاملها مولودها الأول دون قابلة، ويتربص به آباء جاهزون بأشجار النسب: الإسلاميون والعسكر وفلول الاستبداد البائد. وكلٌ يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تُقرُّ له بذاكا! وهو أقسى الشهور لأنه بات الشهر الذي يدخل فيه جدل الطائفية حالة سعار موسمي بعد دفن الشهداء، ولملمة الأشلاء وتبادل العزاء وتجديد الطلاء، بعيدا عن المس بالنفوس المصرية، لأنها طاهرة أصلا، أو هكذا يقولون! وقد أتى الموسم في موعده ولم يثقل على الرئيس مبارك في شيء. فقد أخرج الرجل من الأرشيف الخطاب الذي وجهه في مناسبة عيد الشرطة يوم 24 يناير 2010، لأنه يصلح لعام 2011، وسيصلح لأعوام 12 و13 و14 وإلى ما شاء الله. فهذه مصر الاستقرار.. فهل غادرتْ مصرُ من مُتَرَدّمِ طبعا لأ. قال الرئيس في 24 يناير 2010: «.. وإنني كرئيس للجمهورية.. ورئيس لكل المصريين.. أحذر من مخاطر المساس بوحدة هذا الشعب.. والوقيعة بين مسلميه وأقباطه. وأقول بعبارات واضحة.. إنني لن أتهاون مع من يحاول النيل منها أو الإساءة إليها.. من الجانبين. إننا نواجه أحداثا وظواهر غريبة علي مجتمعنا.. ويدفعها الجهل والتعصب.. ويغذيها غياب الخطاب الديني المستنير.. من رجال الأزهر والكنيسة. خطاب ديني.. يدعمه نظامنا التعليمي وإعلامنا وكتابنا ومثقفونا.. يؤكد قيم المواطنة.. وأن الدين لله والوطن للجميع. ينشر الوعي بأن الدين هو أمر بين الإنسان وربه.. وأن المصريين بمسلميهم وأقباطهم شركاء وطن واحد.. تواجههم ذات المشكلات.. ويحدوهم ذات الطموح للمستقبل الأفضل.. لهم.. وللأبناء والأحفاد. دور ضروري ومطلوب.. ينهض به عقلاء الأمة وحكماؤها من الجانبين.. يتصدي للتحريض الطائفي ويحاصر التطرف.. ويعمل من أجل مجتمع مصري متطور لدولة مدنية حديثة.. ويدعو المسلمين والأقباط للتسابق في بناء المدارس والمستشفيات ومساعدة الفقراء.. وللعطاء من أجل الوطن». ويقول الرئيس في 23 يناير 2011: "إننى أعاود اليوم التحذير من كل ذلك..وأقول إن اللحظة الراهنة تفرض علينا وقفة مصرية للانتباه والحذر والوعى والاستعداد..كما تضع على عاتقنا جميعا مسئولية كبرى تجاه الوطن. "أقول إن الطائفية تمثل ظاهرة ممقوتة غريبة على مجتمعنا يدفعها الجهل والتعصب ويغذيها غياب الخطاب الدينى المستنير لبعض رجال الدين .. وبعض الكتاب والمفكرين .. إن الهجمة الإرهابية الأخيرة تفرض علينا التصدى لذلك على الفور .. وأن نراعى سلامة القصد وصالح الوطن .. وإلا فإننا نكون كمن يمنح الإرهاب سلاحا يتمناه كى يرتد فى صدورنا .. أقباطا ومسلمين." خطاب الرئيس في 2010 احتل نصفه الموضوع الطائفي، واحتوى على تسمية الجهات المنوط بها من وجهة نظر الرئيس مواجهة الظاهرة واتخاذ ما يلزم من إجراءات لتخفيف حدتها ومن ثم محوها تماما. طبعا هذه الجهات، وهي مؤسسات دولة، تفهم (الفولة) حق فهمها. فالتوجيهات والخطاب تمر من باب العزاء والواجب وجبر الخواطر، ولا بأس من ثلاث أو أربع أغانٍ مع أوبريت أو اثنين، ثم .. بح! هكذا يصبح مدحت العدل هو المعني بأمن مصر، أي يصبح هو الدولة! لم تسئ المؤسسات التي سمعت الكلام بأذن وأخرجته من أخرى، لم تسئ الفهم إطلاقا، بل أثبتت الأيام أن فهمها هو عين الصواب، باعتبار أن مقاصد الرئيس هي عين الحقيقة الملهمة. ففي الخطاب التالي مباشرة لخطاب عيد الشرطة 2010، وكان في أبريل الماضي بمناسبة تحرير سيناء، لم يتحدث الرئيس بكلمة واحدة، ولو حرف واحد، عن الموضوع الطائفي، و لا متابعة النداءات التي أطلقها للمؤسسات فذهبت أدراج الرياح. لا، لا يصح أن نلوم الرياح، فالأصدق أنه لم تكن هناك نداءات أصلا! كان لا بد أن ننتظر عاما آخر، ومزيدا من الاحتقان، وغليانا في التراشق الإعلامي، وكاميليا ووفاء والعوا وبيشوي، والعمرانية، والبابا والإمام الأكبر،ثم دماء 24 قتيلا تعلن الأسكندرية مدينة التعصب والتصحر العقلي، بعد أن كانت رمزا عالميا للتعدد والكوزمبوليتانية. وها هو الرئيس ونظامه وبينهما مصر، يقفون جميعا عند نفس الطلل، ويقرأون القصيدة ذاتها. نحن بخير. أو هذا ما يريدوننا أن نصدقه. فقاتل أقباط نجع حمادي في نهاية 2009 حكم عليه بالإعدام. وقتلة أقباط الإسكندرية في نهاية 2010 قادمون من غزة بأفكار قاعدة العراق. أما نحن فضحايا مؤامرة الآخرين. ولا بأس من تقديم الاحتفال بعيد الشرطة يومين، وزف بشرى تحديد هوية المتهم الخارجي للشعب المصري. ومن الطريف أن كلمة الرئيس بعد ساعات من تفجير (القديسين) نصت على (الأصابع الخارجية)، وها هو الوحي يصدق بعد ثلاثة أسابيع لتنص الكلمة الجديدة على (بصمات الأصابع الخارجية)! يحاول الاحتفال المبكر وزف البشرى استباق يوم الغضب المصري المقرر له بعد غد. فما قد يحدث فيه لا ينبغي أن يسيء لعيد الشرطة. والجدل الداخلي الذي سيثيره اتهام الأصابع الخارجية قد يصرف النظر عن الغضب يعيد توجيهه بعيدا عن النظام. كل هذا فيما تقطع أحزاب مصر (المعارِضة) الخيط الأخير الذي يربطها بالشارع. فتعلن بمنتهى التخاذل امتثالها لتعليمات النظام وأمنه بمقاطعة يوم الغضب. على رأس المقاطعين، إما بالقطع أو بالميوعة: حزب التجمع،حزب الوفد، الإخوان المسلمون، الكنيسة المصرية! ولكِ يا مصر السلامة.