ينطلق الفيلم "الامريكى" "The American" من بطولة "جورج كلونى" فى بدايته من أجواء الاثارة والاكشن وهى أجواء تتكرر من حين لآخر لاهثة وساخنة ضمن مشاهد الفيلم الهادىء فى عمومه، هذه المقدمة خادعة الى حد كبير لأن مشاهد الفيلم اللاحقة تظهر أننا أمام دراما من نوع أخر تعزف على اوتار نفسية وانسانية لشخصيات داخلها مشوش ومضطرب، وخلف العنف وصخب الرصاص وحمرة نزف الدم التى تغلف بعض المشاهد بقسوة نرى بورتريه ملون بألوان متنافرة لقاتل محترف يسعى للتطهر والتوبة والتخلص من حياته القلقة اللاهثة. هذا البورتريه يجمع تناقض السلوك الخشن والمشاعر المتجمدة والنعومة الرومانسية التي تتسلل الى حياة البطل القاسية رغبة التوبة كأنها اضاءة خافتة لا تلبث أن تتوهج وتزداد حتى تغطى على كل شىء أخر. هذه التوبة مصادرها رومانسية وناعمة تبدأ حينما يقع فى غرام مومس ايطالية ترى في حبه وعطفه الخاص عليها فرصة للخلاص من دنس حياتها والبدء من جديد. يبدأ الفيلم بمشهد فى مكان منعزل تغطيه الثلوج فى السويد حيث يقضى جاك "جورج كلونى" عطلته بصحبة صديقته السويدية، وفى لحظات يتحول الهدوء والصمت والبرودة الى مذبحة مروعة يقتل فيها جاك صديقته واثنان أخران حاولا قتله، ويذهب بعدها ليختبأ فى قرية ايطالية صغيرة حيث يعتاد الناس على مناداته بالأمريكى أو "أمريكانو" باللهجة الايطالية. فى هذا المكان البسيط والهادىء تجتاح جاك مشاعر غريبة هى مزيج من القلق والوحدة وانعدام الثقة بالأخرين، يبدو اختيار المخرج موفقاً للغاية فى توظيفه للقرية الايطالية التى يذهب لها البطل للاختباء، وهذا المكان له تضاريس غريبة وشوارعه صغيرة ومتعرجة وملتفة بصورة كثيفة، انه مكان مثالى للاختباء بعيداً عن أعين المتربصين به والساعين لقتله انتقاماً، ولكن فى الوقت نفسه تبدو تلك الشوارع بصعودها وانحدارها وزواياها المفاجئة وأركانها الغامضة وامتدادتها الحلزونية اللانهائية كأنها دوامة تمتصه، وحينما تستخدم تلك الشوارع ساحة لاحدى المطاردات تبدو من زاوية التصوير من أعلى كانها متاهة سيضيع فيها القاتل والمقتول.
أثناء اختباء جاك لاتمام مهمته الأخيرة قبل الاعتزال تتحول علاقته الجسدية بالمومس كلارا الى قصة حب لم يتعمدها أحدهما، فهى تجد فى الأمريكى الهادىء محب الفراشات فتحة صغيرة ترغب فى أن تمر منها من عالم بائعة الهوى الى عالم المرأة المحبة، وهو يرى فيها تلك الفراشة الرقيقة المحبوسة فى شرنقة حياة تعسة تتطلع اليه ليساعدها على الفكاك والهروب منها. تلتقى رغبة القاتل المحترف والمومس فى التوبة وتنشا بينهما قصة الحب التى تمثل بالنسبة لكل منهما طوق النجاة الاخير. الفيلم لا يحمل طابع فيلم الاكشن الهوليوودى المعروف ويميل الى أجواء الميلودراما الأوربية والاقتصاد فى الحوار وتكثيف لغة الصورة، وحتى بعض التفاصيل فى الحبكة يتم اهمالها بتعمد، وان كان ذلك يترك المتفرج فى فضول بحثاً عن اجابات بعض الأسئلة لكنه يحافظ على جوهر دراما الفيلم وهو رصد الحالة النفسية للبطل بعيداً عن التركيز على الشكل المألوف للاثارة والأكشن.
مخرج الفيلم هو الهولندى "أنتون كوربين" ومدير التصوير هو "مارتن روه" وكلاهما قدم عملاً بديعاً على مستوى الصورة جمالاً وتعبيراً عن حالة الشخصيات وموضوع الفيلم، انتقلت الكاميرا من مساحات الجليد الباردة فى السويد الى دفء تلة بديعة مطلة على نهر صغير فى ايطاليا ثم الى شوارع دوامية حجرية فى قرية ايطالية وكثير غيرها من أماكن التصوير التى لم تكن مجرد خلفيات جمالية سطحية، وانما تعبير عميق عن هذا التناقض والتغير فى سلوك ومشاعر رجل قاسى مهنته القتل ويبحث عن أى ضوء ولو خافت يرشده الى طريق العودة الى انسانيته.