يحتاج فيلم «The american» والذي عُرض تجاريا في الصالات المصرية بنفس الترجمة الحرفية «الأمريكي»، أن يصبر عليه مشاهده الذي تعود علي متابعة الأفلام الهوليوودية التقليدية أما سبب الصبر فيرجع أولا إلي أننا أمام فيلم مختلف جدا، الأفيش الخادع الذي يتصدره بطل الفيلم النجم «جورج كلوني»، وهو يجري يكاد يعلن أنك أمام فيلم بوليسي أو أكشن، في حين أن الأمريكي في جوهره يجسد دراما نفسية واجتماعية ورحلة إنسانية تجري بالدرجة الأولي داخل البطل المحاصر والمطارد، ولذلك سيندهش المتفرج الذي تعود علي الأفلام الأمريكية التقليدية من بطء الإيقاع، كما قد يلفت نظره قلة الحوار، سيحتاج الفيلم أيضا صبر مشاهده لأنه من أفلام الشخصيات، بمعني أن كل الأحداث القليلة جدا في الفيلم لا تستهدف سوي رسم العالم الخاص لبطل واحد فقط هو المجرم الذي يحاول الاعتزال «جاك»، وكأننا أمام لوحة أو بورتريه لشخصية ينتهي الفيلم برسم آخر خط في ملامحها. المفاجأة الثالثة التي قد تصدم بعض مشاهدي السينما الأمريكية مما يستدعي صبرهم علي المشاهدة هي أننا أمام بطل لا علاقة له بمفهوم البطل الأمريكي التقليدي المنتصر، إننا أمام إنسان مهزوم بمعني الكلمة، حطام بني آدم دمرته مهنته واختياراته وأصبح حرفيا داخل الجحيم، باختصار نحن أمام فيلم أمريكي غير تقليدي فيه نفس أوروبي واضح سواء من حيث الإيقاع أو رسم الشخصية المحورية أو حتي من حيث مستويات القراءة والتأمل، أما لماذا يصبر المشاهد علي المتابعة دون أن يترك مقعده إلا عند مشهد النهاية فلأن الفيلم يستحق فعلا، وإن كان لا يخلو بالطبع من الملاحظات. والآن تعالي معي إلي عالم «الأمريكي» المقتبس عن رواية كتبها «مارتن بوث»، وأعد السيناريو «روان جوف»، وأخرج الفيلم «أنطون كوربجن»، ولما كنا اتفقنا علي أننا أمام فيلم شخصية محورية واحدة، فلننظر من هو؟ وما هي مشكلته بالضبط؟ ومن الإجابة ننطلق إلي مغزي الفيلم بأكمله.. «جاك» الذي يلعبه ببراعة «جورج كلوني» لا تظهر ملامحها إلا ب«القطارة» وشيئًا فشيئًا مثل «البورتريه» الذي يرسم خطا بخط، الصورة النهائية تقول إنه قاتل محترف له أعداء في كل مكان، ليست هناك تفصيلات عن تلك العمليات وأسبابها وأرباحه منها، وليس هناك أي إشارات عن أسباب امتهان «جاك» لهذه المهنة التي تقتل الروح، وسأعود لمناقشة عدم ذكر هذه التفصيلات في ميزان من النجاح أو الفشل، المهم أن تعرف الآن أن هناك أشخاصا يطلق عليهم «السويديون» يطاردونه، وبسبب ذلك يقوم بقتل صديقته خطأ اعتقادا أنها تواطأت معهم، ثم يكتشف أنها لا علاقة لها بما حدث، يهرب إلي روما، ليكون تحت حماية الرجل الذي يعمل لحسابه واسمه «بافيل»، فيرسله الأخير ليعيش في قرية إيطالية منعزلة تماما اسمها «كاستيلفشيو»، ومن هناك يطلب من رئيسه وظيفة بعيدة عن القتل، فيختار له مهمة تصنيع سلاح فتاك لبيعه يجمع بين قوة المدفع الرشاش، وطول مدي البندقية. كل الشخصيات في الفيلم تستهدف وضع ضربة فرشاة في صورة «جاك» البطل المهزوم الصديقة الأولي التي قتلها خطأ تطارده في أحلامه وتجعله يقرر ما يشبه الاعتزال، وماتيلدا. «ثيكلا روتين» التي ستشتري منه البندقية التي صنعها في القرية ستجعله يتأرجح طوال الوقت. بين الأمل والإحساس بالخطر، والعاهرة «كلارا» «فيولانتي بلاسيدو» سيعرف معها معني الخلاص بالحب، و«بأقل» الذي كان مصدرًا للحماية والأمان سيصبح مصدرًا للخطر والموت بعد أن اكتشف أن «جاك» لم يعد ورقة رابحة، وبعد أن فقد كل فائدته كقاتل. ولكن أهم شخصية ستعكس لنا أزمة «جاك» الداخلية هي القسّ «بنتيوش باولو شيللي بأداء راسخ يخطف الأنظار». إنه رجل عجوز ينظر مباشرة إلي روح «جاك»، يقول له أنك لست مصورًا فوتوغرافيا، ويكتشف بسهولة أنه ماهر في التعامل مع الآلات وليس كما يدعي، ثم يعطينا الأب «بنديتو» الخيط الأول لفهم مأساة «جاك» عندما يقول له إن كل اللذين يبحثون عن السلام ارتكبوا في الماضي خطايا كثيرة، ثم يعترف الأب «بنديتو» نفسه ل«جاك» أن ميكانيكي القرية «فابيو» هو ابنه غير الشرعي، أي «جاك» لأول مرة أنه لا يعتقد أن الله يهتم به، وسيقول أن كل البشر خطاه، والحقيقة أنه كان لابد أن تزيد مساحة مشاهد «جاك» و«بنديتو» عما رأيناه لأن الأخير هو مفتاح فهم أزمة الأول، بل أنه يقول في جملة حوار مهمة: أنتم الأمريكيون تهربون من الماضي وتفضلون الحاضر. في هذه العبارة ما يقحم علي الفيلم بعداً سياسياً فجاً وواضحاً، فالأمريكي ترك وطنه وماضيه المثقل بالآثام والذنوب والعنف والقتل، ولجأ إلي قرية أوروبية ليتراجع خطوة نحو الخلاص بتصنيع البنادق بدلاً من استخدامها في القتل، ثم استعاد الاحساس بالحب علي أيدي بائعة الجسد، المعني واضح جداً ولكنه هزيل في مقابل معاناة الشخصية الوجودية والإنسانية، هناك رحلة خارجية إلي قرية هادئة، ولكن الرحلة داخل هذه الشخصية التي ستدفع حياتها ثمناً لخلاصها. هنا أعود لمسألة قلة التفصيلات عن حياة الشخصية السابقة، بل إن هناك تعمداً لاخفاء هذه المعلومات لأن الحكاية ليست بوليسية ولا هي عن العصابات، ولكني أعتقد أن بعضاً من المعلومات العامة عن ماضي وبدايات الشخصية في عالم القتل كانت ستثري الصورة تماماً، وستضيف لها ألوانًا وظلالاً رائعة، وأظن أن ذلك كان أفضل من الاغراق في مشاهد ومواصفات تصنيع البندقية الآلية، من الملاحظات الأساسية أيضاً أن نهاية الفيلم أن يموت «جاك» في الاحتفال الديني برصاص البندقية التي صنعها، وليس في أي مكان آخر، الموت في الاحتفال يرتبط بفكرة الخلاص، والموت بالبندقية يحمل دلالة أخلاقية واضحة، والموت في عز الشعور بالأمان هو الأكثر تأثيراً وقوة. رغم كل ذلك، فإن السيناريو ينجح في ادخالك إلي أزمة »جاك« ومعاناتك، قد تعاني من تجميع ملامح الصورة لأن الرسم يتم علي مهل، ولكن ما أن تصل إلي مشهد النهاية حتي تكتشف أن كل الطرق والمشاهد مصممة للوصول إلي هذه النهاية التي تليق ببطل مهزوم هنا نهاية الرحلة ونهاية الهروب والوحدة والعزلة هنا الماضي ينتقم نهائيا من الحاضر لدينا مخرج يعرف تماما أنه لا يقدم فيلماً بوليسيا ولكنه يقدم ما اسميه بفيلم الرحلة الداخلية والإنسانية حالة وأزمة ولحظة مواجهة الماضي إيقاع متأمل وهادئ لم تفسده في رأيي إلا مطاردة تقليدية في شوارع القرية استغلال رائع للمكان حيث يتفرد جاك تقريبا بالكادر مع أقل عدد من الكلمات وهناك تحية خاصة في أحد المشاهد للمخرج الإيطالي الكبير سيرجيو ليوني الذي فرض الإيقاع الهادئ المتوتر في أفلام الكاوبوي السباجتي لاحظت أيضا أن المخرج يكرر لقطات بطلة من الخلف وكأن الكاميرا تحل محل الماضي الذي يطارد صاحبته حتي النهاية وكأنها تحل محل العدو السويدي المجهول المتربص في كل مدينة في أكثر من مرة تم تصوير جاك سلويت تعبيرا عن الظلام الذي يعيش بداخله كان جمال القرية يتناقض تماما مع الخراب في قلب جاك وكانت الموسيقي عنصرا أساسيا في التعبير عن هذه الحالة الطبول وقت الخطر ودكات البيانو عند الشعور بالحب مشاهد مكثفة مشدودة حملها علي عاتقه جورج كلوني الذي حافظ طوال الوقت علي عيون حزينة انطفأت وانكسرت إنه بالتأكيد من أصعب أدواره لأن معظم انفعالاته مركبة وداخلية بمعني أنها لا تظهر في صورة حركية وإنما من خلال إيماءة عين أو حركة جسد. يقول بنديتو ل«جاك» لا تشك في الجحيم لأنك تعيش فيه.. الجحيم أن تعيش بدون حب ولقد كان الحب إحدي وسائل البطل المهزوم للخلاص الأخير.