عندما سألتني قناة الجزيرة عن أزمة صحيفة الدستور ، قلت إن بعض أجهزة المخابرات حينما تقرر اغتيال شخصا ما ، تتفق مع قاتل مأجور ليرتكب الجريمة ، ثم بعد ذلك مباشرة يتم قتل القاتل ، وبذلك تتعقد الأمور ، وتضيع الحقيقة ! وهذا ما حدث مع صحيفة الدستور ، إذ فجأة يُقيل رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير ، ثم يخرج السيد البدوى بحركة بهلوانية من الصحيفة ليغسل يديه من دم إبراهيم عيسى ، وصحيفته المذبوحة ! فهل من الممكن أن ينتهي الأمر بهذه البساطة ؟ طبعا لا يمكن ، لأن هذه الطريقة من التفكير ، طريقة متخلفة جدا ، ولا تناسب عصر الإنترنت والسماوات المفتوحة ، وهذا دليل جديد يضاف إلى أدلة كثيرة تؤكد أن من يديرون الأمور فى ربوع المحروسة ، لا ينتمون إلى الألفية الجديدة ، فنحن فى زمن آخر غير زمنهم القديم ، ولا يمكن أن تكمم الأفواه بهذه الفجاجة المكشوفة ، وهذا يؤكد – لمن لم يتأكد بعد – أننا فى نهاية مرحلة طالت كثيرا جدا ، ومصر مقدمة على تغيير شامل ، أو بتعبير عيسى : "يوم له صبح ". وهذه الأزمة لا يجب أن تمر دون أن نتأمل قليلا فى بعض ملامحها من جهة ، وفى بعض أطرافها من جهة أخرى : -فى البداية نتوقف عند ردود فعل الناس العاديين تجاه ما حدث لصحيفة الدستور ، ورئيسها الموهوب إبراهيم عيسى ، وكتيبته الرائعة ، أن موقف الناس ليعيد إلينا الثقة فى شعبنا الأصيل ، وكذلك ردود أفعال الكثير من المفكرين والكتاب والصحفيين والمهتمين بالشأن العام . يتحدث الناس عن موقف رئيس حزب الوفد السيد البدوى شحاته ، ودوره المدبر له فى صفقة شراء الدستور ، ولكنه تصور نفسه أذكى من الناس جميعا ، وأنه يستطيع بطريقته فى خلط السم بالعسل ، والأكاذيب بالحقائق ، تخيل أنه سيخدع الناس جميعا ، ويخرج من المذبحة بلا نقطة دم واحدة على ثيابه ، دون أن يدرك أن الإنسان إذا فقد البوصلة الصحيحة ، فأول من يقوده إلى الهاوية هو عقله القاصر ! - لقد اضطر السيد البدوى ، وهو يدعى البراءة والطهارة والسذاجة أيضا ، اضطر أن يقول إنه أخطأ فى صفقة شراء الدستور ، وسواء كان قد أخطأ بحسن نية كما يدعى ، فقضى بذلك على أقوى صحف المعارضة فى مصر ، أو كان أداة طيعة فى يد نظام الحكم للتخلص من قوة معارضة الدستور ، وشجاعتها فى كشف الفساد ، ففى الحالتين هذا الرجل لم يعد يصلح لرئاسة حزب الوفد ، بعدما ظهرت حقيقته ، ومن ثم على أعضاء الحزب الشرفاء أن يجتمعوا لسحب الثقة ممن ذبح صوت الحق ، وقصف أقلام حرة ، لكى يرضى اللصوص والفاسدين والمفسدين فى الأرض . - وثمة من لم يسمع باسمه أحد من قبل ، وخرج علينا فجأة كواجهة لشراء الدستور ، هذا الذى يقول إنه سيُخرج الجرنال بقدمه ، أؤكد له – وكل من شاهد ما يصدره من غثاء يعلم ذلك – أن رائحة قدم سيادته تطفح من كل صفحة من صفحات الصحيفة المسروقة . - هذه الأزمة كشفت الجميع للجميع ، فكل من صمت على هذه الجريمة النكراء ظهرت حقيقته ، وكل من حاول أن يمسك العصا من المنتصف ، بان ما أخفاه فى داخله ، وكل من دافع بصراحة ، أو بخسة عن القتلة المأجورين فاحت رائحته العفنة . - أما زملائى الأعزاء فى الدستور ، صحفيين وكتاب ، فلهم كل التقدير على موقفهم معا كيد واحدة قوية فى مواجهة إدارة متعسفة وغشيمة ، تجهل طبيعة العمل الصحفى ، وتتوحش فى مواجهة الصحفيين الشبان ، إن قلب الوطن لتعتصره شجاعة هؤلاء الشباب فى مواجهة أنياب رؤوس الأموال ، هذه الملايين الفاجرة ، كيف تكونت ؟ - وفى النهاية أحب أن أؤكد على أنه لا أحد مهما كان ، يستطيع أن يقتل الدستور ، أو يقضى على تجربتها الصحيفة ، لماذا ؟ لأن الدستور تجربة مهمة وثرية ، ومثل هذه التجارب الإنسانية لا تموت ، وإنما تتجدد وتتطور مرة بعد أخرى. - ستعود الدستور بإذن الله ، ستعود أقوى وأجمل وأروع مما كانت ، ستعود بغض النظر عن الاسم ، فكما أن مصر فى أشد الحاجة إلى دستور جديد ديمقراطى يناسب العصر ، كذلك مصر بحاجة إلى صحيفة حقيقية كدستور إبراهيم عيسى ، تعبر عن الآراء الحرة ، والأفكار الجريئة ، وتقول المسكوت عنه . ستعود الدستور ، مرة أخرى ، كما عادت من قبل ، ستعود لأن صوت الحق لن يغيب ، والحرية أبدا لن تموت .