من يتابع العواصف الهوجاء التي تتجمع هذه الأيام في سماء الوطن منذرة بفتنة طائفية بالغة الخطورة يدرك أن الفتنة الطائفية التي تطل برأسها هذه الأيام هي الأخطر، وأنها ليست كسابقاتها مجرد زوابع عارضة يثيرها بعض المتعصبين من العامة. المواجهة هذه المرة استقطبت قيادات فكرية وروحية من الجانبين، وهذه القيادات هي التي كنا نعول عليها دائما لمحاصرة الزوابع العارضة، وتورط هذه القيادات في مواجهات اليوم يعني أن القوي المؤهلة لمحاصرة العواصف واحتواء الفتنة قد تخلت عن مواقعها، وأن طوفان التعصب الجاهل علي الجانبين لن تقف في وجهه «السدود» التي كانت تحمي الوطن من طوفان التعصب الطائفي، والموقف علي هذا النحو أكثر خطورة من أي وقت سابق. أعلم أن المنابع التي تغذي الفتنة كثيرة، لكنني هنا سوف أتوقف بحديث مفصل أمام أحد المنابع التي أراها أخطر هذه المنابع، وأعني بها ما يتدفق عبر وسائل الإعلام المختلفة وعلي شاشات التليفزيون بشكل خاص من خطاب إعلامي يمهد الأرض لنمو كل أشكال الجهل والتخلف والتعصب. وتأتي الفضائيات الدينية «إسلامية ومسيحية» ليسهم عدد كبير منها في الدعوة الصريحة للتعصب المذهبي والطائفي، بل التحريض علي رفض «الآخر» ومناصبته العداء، ورغم أن عدد هذه القنوات التي تدعو صراحة إلي الفتنة وتحرض عليها ليس عدداً كبيراً إلا أن تأثيرها بالغ الخطورة وتجذب كل يوم مزيدا من المتحمسين لمتابعتها خاصة في الأوقات التي تقع فيها أحداث تنسب إلي الصراع الطائفي. وفي مناخ أصبحت السيادة فيه علي نسبة كبيرة من عامة الشعب للجهل والخرافة، تمكن مشعلو نيران الفتنة من التأثير في كتلة كبيرة من عامة الشعب علي الجانبين «الإسلامي والمسيحي». هذه الأوضاع خلقت «كتلة جماهيرية» شديدة التعصب، وشكلت هذه الكتل الجماهيرية «إرهاباً فكرياً» بلغ حدا من القوة جعل المعتدلين علي الجانبين يخشون من الجهر برفضهم للأفكار والممارسات التي تدعو للتعصب وتنفخ في نيران الفتنة، وأصبح صوت القنوات المعتدلة نسبيا صوتا خافتا، وتراجع تأثيرها لصالح القنوات الأكثر تطرفا. أعرف أن أصواتا كثيرة تنادي بضرورة منع هذه القنوات من البث من مصر، وأقدّر الدوافع المخلصة لأصحاب هذه الأصوات، لكنني أري أن هذا المنع ليس هو الحل الأمثل، فهذه القنوات الأكثر تطرفا تتلقي دعما ماليا من جهات كثيرة تتربص بأمن واستقرار مصر، والقائمون علي أمر هذه القنوات باستطاعتهم الاعتماد علي مصادر التمويل هذه للعودة للبث من بلاد كثيرة وفي هذه الحالة فإن الإقبال الجماهيري علي مشاهدة هذه القنوات سوف يزداد، وسوف تتصاعد نغمة التحريض التي يمارسها القائمون علي أمرها وهم في مأمن من أي ملاحقة أدبية أو فضائية. لقد أصبح البث من أي مكان في العالم متاحا لكل من يرغب في إطلاق فضائية، والأقمار الصناعية التي يغطي بثها المنطقة العربية كلها عددها بالعشرات، والكثير منها علي استعداد لتأجير قنوات البث التليفزيوني وبأسعار منافسة لأسعار الأقمار الصناعية المصرية، كما أن الحصول علي مواد مصورة للأحداث التي تقع في أي مكان علي أرض مصر وبثه من الخارج لم يعد أمرا صعبا، سواء بتكليف وكالات أنباء أجنبية لتغطية هذه الأحداث وشراء المواد المصورة منها، أو حتي بالاعتماد علي صور تلتقط بالهواتف المحمولة. ومع التطور المذهل في إمكانات الهواتف المحمولة سواء في التصوير أو حتي في البث المباشر إلي استوديوهات في الخارج، هذا التطور المذهل يجعل إغلاق هذه القنوات المتطرفة عملية غير مجدية. الحل في تصوري يكون بمواجهات فكرية مستنيرة يتصدي بها مفكرون مسلمون ومسيحيون لدعاة التطرف والتعصب، وأن تكون لدي هؤلاء المفكرين القدرة علي التصدي بجسارة لكل ألوان التعصب والتطرف دون خشية من «إرهاب العامة» الذي أدي إلي صمت الكثير من عقلاء الأمة المستنيرين مسلمين ومسيحيين إيثارا للسلامة من غضبة الجماهير المتعصبة. وأعتقد أن تصدي فضائيات خاصة لحمل هذه المسئولية هو الأفضل. يبقي أن أشير إلي أن القنوات الدينية ليست هي المسئول الوحيد عن هذا المناخ الفاسد، بل إن جميع القنوات الرسمية والخاصة تسهم في تهيئة الظروف التي تسمح لقوي التطرف باستقطاب جماهير غفيرة تتولي الخطاب الإعلامي غير الواعي، ولو بغير قصد، وتهيئتهم للقبول بكل دعاوي التطرف.. ولهذا حديث مفصل في الأسبوع المقبل إن شاء الله.