الرسومات الجدرانية تحكي عن ليلة صلاة الأنبياء وراء خاتمهم، لون السماء، عطر الرياحين، نقوش ثيابهم، محددات شفاههم، طريقة طي العمائم، إحكام العباءات علي الظهور، ثبات قدودهم، امتداد السجاجيد، اتجاه القبلة، ملمس البشرة، اتساق لحاهم، عناق اللقاءات، مصافحة الأيدي، ربتة الكتف، السؤال عن الصحة، همسة الدعوة، استقامة الصفوف، الأذان للصلاة. شق هواء الحبيبة الأرض العارية، لكن نظرتها قبلت السجادة الوحيدة المفروشة في المبني المترامي، سجادة تتسع لجلوسها علي ركبتيها، تضع يديها علي فخذيها، ينسدل شعرها علي كتفها وطرف السجادة، تنظر للسقف العالي، تطير فيه الطيور مغردة وهديل الحمام يرسل طريقه إلي فضاء المكان، تصعد إليه أغصان الياسمين، تتدلي من فتحاته زهور البنفسج. أغمضت الحبيبة جفنيها علي عيون أيقظها أول شعاع شمس خرج علي الوجود، فأشرقت عيناها ضياء، فانشق السقف عن ملك بديع القوام، ذهبي الملمس، أسود الشعر، مبتسم الثغر، مشرق الجبهة، دافئ العينين، يمسك بعصا صغيرة منسقة قصيرة خضراء. - إني أعوذ بك من الرحمن إن كنت إنسيًّا. قالتها في هدوء منير، فاتسعت ابتسامة الملك، ووقف قبالتها وانثني علي ركبتيه: أيتها الحبيبة أنا رسول إليك، قادم من الفضاء إلي عينيك أنا أحد الملائكة الذين حاربوا مع الرسول محمد - صلي الله عليه وآله وسلم - في معركة بدر، يوم خرج الكفار علي ألف من فرسانهم ورجالهم، وأمرنا الله أن نحارب مع نبيه، وكنت يومها علي فرس سماوي، أرفع السيف وأقتل الكفر، يومها في ملحمة القتال وروعة النضال وضحي الإسلام وفجر الحقيقة وإشراق الرسالة... أخذتني في راحة المعركة نظرة إلي السماء فوجدت عينيك باسمتين حانيتين فيهما ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب ملك. فبدت مني رجفة السؤال وتضرع الدعاء: متي ألقاها؟ وكنت كلما تذكرتك، وأشرقت عيناك في سقف قلبي، وارتعشت رموشها ريش الجناح، سبحت الله كثيراً وحمدته حمد الشاكرين الطاهرين وتقطرت دموع الدعاء في عصير الفؤاد، حتي جيء بالملائكة صفًّا صفًّا.. ومن بينهم ودون فضلهم حظيت بالحضور إليك والنعيم بحراسة عينيك، وعبرت السماوات السبع، والفضاء الروع وسخونة الدمع، وجئتك برزق الله وفضله ونعمائه وآياته. ثم مد الملك يده بعصاه، فانفرجت فتحة في سقف المبني، واخترقتها يمامة بيضاء ترفرف بالجناح، وتعلو بالصياح، تقترب من الملك فتقف علي كتفه وتنظر للحبيبة بعينين منتظرتين مشتاقتين. امتدت يد الملك وجذبت كفها، أنزلت قدمها علي سلم مستند إلي بطن اليمامة، فلمست الرمل المفروش فالتمعت ذراته لما وطأته حواف خفها. التفتت الحبيبة فوجدت السيدة هاجر تحتضن النبي إسماعيل طفلاً رضيعاً، تبحث له عن قطرة ماء فلا تجد، تطوف وتسعي، العرق يحفر رسومه علي جبهتها والارتباك يمص انتظام حركتها، ولهفتها علي إطعام ابنها وسقياه تجعلها تدور وتلهج وتبكي وتتردد، وتمسك ابنها فتضمه، ثم تجلسه وتمضي.. ثم تصعد جبلاً وتهبطه، ثم تنظر للسماء وتتضرع، ثم تعبث في الرمل وتدمع، ثم تهمس تخاطب زوجها الغائب وتجلس ملتاعة مأخوذة منهكة القوي مسلمة أمرها لله. حتي دبت قدم إسماعيل في الأرض فرجَّتها وهزتها وحفرتها وزلزلتها، فتحركت وأطلقت صخرها وحجرها ورملها ثم أخرجت دفقًا من الماء الرائق الصافي المرسل، فامتدت يد الملك إلي حفنة الماء الأولي وأجمعت قطراتها علي كفه وتقدم من الحبيبة، فغسل وجهها وعطر عينيها ولف رموشها. وسبح باسم الله بكرة وأصيلاً وصلي علي أنبيائه، أبوهم وخاتمهم ومضيا. ...........هذا مقطع من روايتي (في وصف من يمكن تسميتها الحبيبة) والتي صدرت عام 1989 تخيل كتبت هذه الرواية وعمري 23سنة تقريبًا وبعد واحد وعشرين عامًا أعود فأنشرها في طبعة جديدة ومازلت أذكر بعض الأصدقاء الذين اعتبروا أن مصر هي هذه الحبيبة التي غمرتها وصفًا في الرواية، وكنت أوافق علي هذا الرأي ولا أناكف أصحابه لصغر سني وطولة بالي وقتها ولكنني بعد هذا العمر أؤكد لكم أنني لا أعرف من هي الحبيبة في هذه الرواية لكنها ليست مصر بالتأكيد!!