«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد المهدي يحقق: انتحار الأطفال
نشر في الدستور الأصلي يوم 29 - 09 - 2010

طالب بالصف الأول الإعدادي شنق نفسه لعدم رغبته في الذهاب للمدرسة.. فكيف تهون الحياة علي أطفال في مقتبل العمر بهذه السهولة؟!
د. محمد المهدي يحقق في انتحار الأطفال
«انتحر طالب بالصف الأول الإعدادي (12سنة) بالإسكندرية لعدم رغبته في الذهاب للمدرسة، فقد قام بشنق نفسه بحبل مربوط في عرق خشبي بسقف حجرة أعلي سطح البيت».
حين قرأت هذا الخبر انتابتني مشاعر مختلطة منها الشفقة ومنها الدهشة ومنها الغضب ومنها الحيرة، إذ كيف تهون الحياة علي طفل في هذا السن؟... وكيف اختل توازنه النفسي حتي يصبح الموت عنده أفضل من الحياة؟.... وما الظروف الأسرية التي عاشها؟.... وما حجم الضغوط المدرسية والدراسية التي تعرض لها في السنوات الماضية؟.... وكيف أصبحت المدرسة منفرة والدراسة موحشة إلي هذا الحد؟ .... ومن المسئول عن وصول طفل إلي هذه الحالة من الإحباط واليأس؟... أهي الأمية التربوية لدي المدرسين والقائمين علي العملية التعليمية؟.... أهي الأمية النفسية لدي الأسرة والمجتمع بحيث لم يستشعر أحد معاناة الطفل حتي وصل إلي هذه الحالة؟.
ويطارد خيالي مشهد هذا الطفل وهو يصعد إلي سطح المنزل لا ليلعب أو يطيّر طيّارة ورقية - كما كان الحال من قبل- ولكن ليقف علي كرسي ويربط الحبل في العرق الخشبي، ثم يلفه حول رقبته، ثم يضرب الكرسي بقدميه الصغيرتين ليشنق نفسه هربا من جحيم المدرسة أو من جحيم الحياة التي يعيشها هو وأسرته.
وتتوالي الصور من حوادث انتحار الأطفال في السنوات الأخيرة: طفلة عمرها 9 سنوات انتحرت بسبب سوء معاملة زوجة أبيها لها، وتدهور مستواها الدراسي...... انتحار طفل في قرية للأطفال بالإسكندرية حيث وجد معلقا في سقف حجرته يرتدي كامل ملابسه، وقد قام بشنق نفسه بجنزير حديدي لمروره بأزمة نفسية قيل إنها بسبب سوء معاملة المشرفين والمشرفات علي الدار..... طالب في الإعدادية يلقي بنفسه من فوق سطح منزله لحصوله علي درجات متدنية وخوفه من عقاب والده.... طالبة في الصف الثاني الثانوي تلقي بنفسها من شرفة غرفتها بعد فشلها في الحصول علي المجموع الذي تريده وتريده أسرتها للالتحاق بإحدي كليات القمة..... طفلة في الحضانة تتحدث لأمها عن رغبتها في أن تموت لأنها لا تستطيع فهم دروسها بالشكل الذي يرضي أباها... طفلة في الصف الثاني الابتدائي تقف علي كرسي لتقفز من فوق سور البلكونة وينقذونها في اللحظات الأخيرة والسبب هو ضغط الدراسة والواجبات.
قد نري مثل هذه الأحداث في بلدان أخري ولكنها تكون متناثرة ولا تشكل هذا الزخم الانتحاري المقلق في هذا السن، فمن المعروف أن الانتحار يكون نادرا في الأطفال، حيث يقضون وقتهم في اللعب واللهو والمرح، ولا يتحملون مسئوليات كثيرة، ولا يدركون من مشكلات الحياة وضغوطها كما يدرك الكبار، وأنهم في حماية ورعاية من والديهم ومن المجتمع.
فهل ياتري انتقلت الضغوط والمعاناة من الكبار إلي الصغار حسب نظرية الأواني المستطرقة، أم أن وعي الأطفال زاد عن ذي قبل وأنهم كبروا قبل الأوان وعانوا ما يعانيه الكبار؟... أم أن العملية التعليمية يشوبها خلل هائل أحدث ضغطا علي الأسرة حين استنزف جهدها ومالها ووقتها بلا عائد وأحدث ضغطا علي الأطفال بلا مبرر؟
قد نفهم بسهولة لماذا تضاعفت نسب الانتحار في مصر فزادت خمسة أضعاف في عام 2010م مقارنة بعام 2005م، ولكن لكي نفهم الزيادة في انتحار الأطفال ربما نحتاج إلي مزيد من القراءة والتحليل للظاهرة وخاصة في ارتباطها بالعملية التعليمية.
منذ سنوات والجميع يشهد بتدهور العملية التعليمية في مصر بدءا بالمقررات ومرورا بالمدرسين وانتهاء بنظام الامتحانات (ولا أحد يفعل شيئا ). ولا يخفي علي أحد دخول الدروس الخصوصية علي الخط بحيث كانت في فترة نوعاً من التعليم المساعد، ثم تحولت إلي نوع من التعليم الموازي ثم أصبحت الآن تعليمًا بديلا للمدارس، وأصبح الذهاب للمدرسة بلا جدوي في نظر الطلاب، وحين يذهبون فهم يفعلون ذلك مرغمين لتفادي تجاوز نسب الغياب والفصل من المدرسة. وقد أصبحت المدارس خالية من الطلاب خاصة في مرحلتي الثانوية العامة حيث يجد الطلاب أن من الأجدي لهم أن يذهبوا إلي الدروس الخصوصية، وأن وقت المدرسة يعتبر وقتا مضيعا. ولم يتوقف ضعف دور المدرسة علي الجانب التعليمي بل ظهر هذا الضعف أكثر جلاء في الجانب التربوي الذي كاد يتلاشي في المدارس الحكومية والخاصة علي حد سواء، حيث لم يعد أحد يهتم به أو حتي يشعر بجدواه فالمدارس تضع أمام عينيه إذا وضعت درجات آخر العام، تلك الدرجات التي تهيئ للطالب في الثانوية العامة دخول ما يسمي تجاوزا وخطأ بكليات القمة. ولما أصبحت الدرجات هي الهدف (وليس العلم) استعان أولياء الأمور بالمدرسين الخصوصيين المحترفين ليصنعوا من أبنائهم وبناتهم «كائنات امتحانية» تحقق درجات تتجاوز الدرجات النهائية (في مشهد لا يحدث في أي مكان في العالم أن يحصل طالب علي 105%)، وراحت قيمة العلم وتلاشت أهمية التربية، وأصبح الجميع يعيش حالة تنافسية ضاغطة علي أعصاب الطلاب وأولياء الأمور والمدرسين.
ولما كانت الدرجات هي الهدف حاول الطلاب بتأييد ومباركة من أولياء الأمور وإغماض عين من لجان المراقبة، الحصول علي الدرجات بالغش، أو الحصول علي الامتحان قبل موعده، وهكذا تلوثت العملية التعليمية بما تلوث به الشعب المصري في السنوات الأخيرة من الغش والتزوير والتلفيق علي مستويات أعلي، وقد باءت كل المحاولات إن كان ثمة محاولات جادة بالفشل لوقف تسريب الامتحانات إلي الدرجة التي تقرر فيها هذا العام نقل امتحانات الثانوية العامة بواسطة طائرات عسكرية!!!!! وهو أمر مثير للدهشة والحيرة، إذ لم يعد أحد مؤتمناً علي أسرار الامتحانات. وقد أحدث هذا ضغطاً هائلاً علي الشرفاء من الطلاب وأولياء الأمور واختل ميزان العدل، إذ قد يحصل طالب ضعيف المستوي علي الدرجات النهائية بالغش ويأخذ فرصة طالب مجتهد رفض أن يغش، ومن هنا بدأ الخلل في الحياة المصرية حيث يتعلم الطالب مبكراً أن العدل مفقود في هذا المجتمع، وأن الحياة فيه تحتاج إلي طرق ملتوية وغير شريفة لتحقيق الإنجاز المطلوب، وأن النجاح ليس مرتبطا بالضرورة بالعمل الجاد والصدق والأمانة والإخلاص، بل قد تكون تلك القيم الإيجابية غير مجدية في هذا المجتمع... كل هذا يسبب خللا هائلا في ميزان القيم في وعي الطلاب في هذه السن المبكرة. ومن ينجح بالغش يستمر في حياته علي هذا المنهج فيرتشي بعد ذلك ويلفق القضايا ويزور الانتخابات ويسرق أموال البنوك بلا ضمانات ويشكل قاعدة واسعة للفساد.
وهذا ما يطلق عليه الكتّاب والمفكرون «انهيار العملية التعليمية»، وهو في الحقيقة ليس انهياراً فقط في العملية التعليمية بل «انهيار في العملية التربوية» و«انهيار في بناء المنظومة الأخلاقية» و«انهيار في المنظومة النفسية» و«انهيار في المنظومة الوطنية» و«انهيار لقيمة العدل وتكافؤ الفرص».
وعلي الرغم من كل تلك الانهيارات التي يسببها الخلل متعدد المستويات في العملية التعليمية، فإن تلك العملية تشكل استنزافاً لموارد الأسرة المصرية بلا عائد حيث يتخرج الطالب ويحصل علي شهادة لا تتيح له فرصة عمل ويحصل قبل ذلك علي تعليم لم يمنحه مهارات تؤهله لسوق العمل فيحدث إحباط للطالب وإحباط للأسرة ولكن الجميع لا يجد بديلاً متاحاً لهذا التعليم المتدهور فيستمر التنافس للوصول إلي اللاشيء، ويظهر التعليم الخاص ليعطي الناس أملاً، ولكنه لظروف خاصة يتحول إلي وهم. وتبقي الوظائف مرهونة بعوامل أخري مثل الرشوة والوساطة والمحسوبية. كل هذه العوامل أهدرت العلم كقيمة واستبدلته بدرجات امتحانية بلا معني، وأهدرت التعلم كقيمة واستبدلته بشهادة ورقية لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولنعد مرة أخري إلي انعكاس هذه السلبيات علي الحالة النفسية للطلاب وأولياء الأمور، فنري عزوفا من الطلاب عن الذهاب إلي المدارس ثم بالتالي احتياجا شرها للدروس الخصوصية. وإدراك الطلاب لانعدام أو ضعف قيمة الشهادة التي يحصلون عليها في النهاية يجعل الدافع للدراسة ضعيفا لديهم مما يستلزم ضغوطا متوالية من الآباء والأمهات لكي يذاكروا ويحققوا أعلي الدرجات (لاحظ أنه لم يعد أحد يفكر في العلم أو في القدرات والمهارات ولكن فقط في الدرجات والتي أصبحت هي الهدف)، ومن هنا اضطربت العلاقة بين الأبناء من ناحية وبين والديهم من الناحية الأخري حيث أصبحت هذه العلاقة تتحدد بمدي التزام الطلاب بما يريده منهم آباؤهم في الأمور الدراسية، ومن هنا تراجعت تلك العلاقة الأبوية الفطرية الدافئة في البيوت واستبدلت بعلاقة محورها المذاكرة والامتحانات وتحصيل الدرجات، وهذا يفسر حالات العناد والتمرد من الأطفال في كل البيوت تقريبا والشكوي المزمنة من الآباء والأمهات من أن هؤلاء الأطفال لا يسمعون الكلام ولا يحرصون علي مصلحتهم.
ثم ننتقل إلي المدرسة لنري حالها في الوقت الحالي:
فمن ناحية البنية نجد أن كثيرا من المدارس تخلو من الحدائق والملاعب وصالات الأنشطة، بينما تتكدس بالفصول الأسمنتية الكئيبة والمظلمة، وإذا انتقلت إلي دورات المياه فإما أنك تجدها محطمة أو تجدها مليئة بالقاذورات. قد تكون هناك استثناءات في بعض المدارس الخاصة عالية المصروفات، ولكن القاعدة تميل إلي أن تكون البنية المدرسية منفرة أو علي الأقل غير جاذبة.
أما من ناحية البنية البشرية من إداريين ومدرسين فنري أنهم في حالة لا تتيح لهم أداء وظيفتهم وهم منشرحو الصدر مرتاحو البال فالمرتبات غالبا متدنية، والأحوال الاجتماعية متدهورة، والظروف النفسية ضاغطة، وربما يخرجون معاناتهم في حياتهم في صورة معاملة فظة في بعض الأحيان أو في صورة لا مبالاة بالعملية التعليمية في أحيان أخري.
والجو العام في المدارس عموماً يخلو من اللمسات الوجدانية الإيجابية، فالمدرس في حالة «زهق» و«قرف»، وهو مضغوط من الإدارة لإنهاء المناهج الكثيفة في موعدها، ولهذا السبب ولغيره تقلصت الأنشطة المحببة إلي نفس الطلاب مثل الأنشطة الرياضية، أو المسابقات أو الرحلات، أو الأنشطة الفنية، وأصبح المتاح هو التعليم الجاف الخشن المنفر، علما بأن سن طلاب المدارس يحتاج لعمليات تلطيف للمادة التعليمية وأن تكون مقترنة بأنشطة استمتاعية وترفيهية، ومقترنة قبل ذلك بعلاقة ودودة محبة من القائمين علي تلك العملية وهو ما يغيب بشكل كبير عن مدارسنا أو عن معظمها.
وتظهر صورة الاضطرابات جلية في فترة الامتحانات حيث تشاهد حالات الإغماءات وتسمع الصراخ والعويل في اللجان وتظهر الأعراض الهستيرية في الطالبات والطلاب، وقد حدث في بعض اللجان أن قام عشرات الطلاب بتمزيق أوراق الأسئلة وأوراق الإجابة احتجاجا علي صعوبة الامتحانات. وقامت طالبة في محافظة البحر الأحمر بمحاولة إلقاء نفسها من الطابق الثالث أمام لجنة الامتحانات، وطالب آخر من الإسكندرية حاول الانتحار داخل لجنة الامتحان بعدما كسر الشباك الزجاجي وتم إنقاذه في اللحظات الأخيرة. كما قام أولياء الأمور باقتحام أحد مقار الامتحان في لجنتين بمدرستين في القاهرة بعدما سمعوا صراخ بناتهم في الداخل، ووقف عشرات من أولياء الأمور يتظاهرون أمام ديوان عام وزارة التربية والتعليم مرددين هتافات ضد الوزير ومطالبين الرئيس بالتدخل لإنقاذ أبنائهم. ويقوم الإعلام بعملية تسخين قبل الامتحانات وأثنائها وبعدها بما يوحي أننا نعيش حالة طوارئ شديدة الوطأة علي الجميع.
هذا الجو المضطرب يجعل درجات القلق ترتفع كثيرا قبل الامتحانات مما يجعل كثيراً من الطلاب غير قادرين علي التركيز وتظهر لديهم أعراض التوتر النفسي فتقل ساعات نومهم أو تزيد بدرجة ملحوظة ويصبحون أكثر انفعالاً وحساسية وتزداد لديهم الأعراض السيكوسوماتية مثل الصداع والقيء والإسهال، وتزيد لديهم السلوكيات الهروبية فيقضون أوقاتاً طويلة أمام التليفزيون أو علي الإنترنت أو يقررون عدم دخول الامتحانات. وهنا يزداد ضغط الأسرة علي الطالب علي اعتبار أنه مستهتر ولا يحرص علي مصلحته فيزداد توتره وهروبه من المذاكرة والامتحانات، وربما يود لو يهرب من الحياة نفسها.
ونعود لما بدأنا به: كيف تتكون الفكرة الانتحارية لدي طفل وكيف يصل إلي قناعة بأن الموت أفضل له من الحياة؟
باختصار شديد فإن الآباء والأمهات يشعرون أنهم مرهقون ومستنزفون في التعليم والدروس الخصوصية وأن أبناءهم لا يقدرون ذلك ولا يشعرون بالمسئولية، وتتحدد علاقة الأبوين بما ينجزه الطفل في المدرسة بحيث يشعر الطفل أن أبويه لا يحبانه لذاته وإنما لما يحققه من تفوق دراسي، وهنا تختزل العلاقة علي الأقل في عقل الطفل في مسألة الإنجاز الدراسي.
وقد يكون الطفل غير قادر علي تحقيق توقعات أبويه في التفوق الدراسي أو حتي الاستمرار في المدرسة، وهنا يشعر الطفل بأنه أغضب أبويه وأنه سبب لتعاستهما وأنه فاشل وسيئ. وعاق، وهنا يتوجه إحباطه وغضبه نحو ذاته فيدمرها في لحظة يشعر فيها أنه قد خسر الحياة مادام قد خسر حب والديه، خاصة أن الوالدين بالنسبة للطفل هما العالم كله. ويساعد علي خيار الانتحار ما يشاهده الطفل عبر وسائل الإعلام من حالات انتحار لدي الكبار تزداد يوما بعد يوم تحت وطأة الحياة القاسية والضاغطة علي الجميع بلا رحمة.
بعد هذا الاستعراض لأزمة الطفل وأزمة الأسرة وأزمة التعليم في بلادنا فإن الأمر يستدعي مراجعة لدوائر ومناطق كثيرة في حياتنا... فمثلا نحن نحتاج أن نمحو أميتنا التربوية فنفهم احتياجات أطفالنا في مراحلهم المختلفة، وأن نمحو أميتنا النفسية فنستشعر معاناة الطفل وأحاسيسه خاصة أنه في هذه السن لا يستطيع التعبير عنها بشكل مباشر بل تظهر في صورة اضطرابات سلوكية كاضطراب النوم والشهية أو العصبية الزائدة أو العنف والتمرد. ويحتاج الأمر دورات تربوية للوالدين للإحاطة بكل هذا.
أما العملية التعليمية والتربوية في المدارس فهي تحتاج لرؤية مختلفة تماما عما هو سائد في الوقت الحالي بحيث يعود الطلاب إلي حب مدارسهم واحترام مدرسيهم في مدرسة جاذبة لهم من حيث الشكل والأنشطة ومعاملة البشر. ولو أنفقنا كشعب وحكومة غالبية مواردنا وجهدنا في إصلاح التعليم فإننا نكون قد حققنا أهم هدف وبدأنا مسيرة التنمية الصحيحة فكثير من نماذج النهضة لدي الأمم المختلفة بدأت بإصلاح التعليم، أما لو استمر الحال كما هو الآن فسيتوالي انتحار الأطفال والكبار بما يشكل حالة انتحار لوطن بأكمله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.