لن أحدثكم عن مطر المسلسلات الذي بات ينهمر فوق رؤوسنا حتي كاد يغرقنا ولم نعد نستطيع أن نتنفس من شدة غزارتها ووحشيتها، وفتكها بنا وبأوقاتنا، وانتهاكها حرمة رمضان، فرمضان مثل ما هو شهر المسلسلات، والتليفزيون فيه يقربنا وعن العبادات يبعدنا، فهو أيضا شهر الإعلانات وفي الخيال نعيش . نعم هذه هي الحقيقة، ودعني أصارحك القول بأنك مثلي أصبحت عبد الإعلان أفندي، عبدا لكل ( إعلان) خليع، وكل ( مسلسل ) وضيع وكل (أغنية) فيديو كليب ماجنة مليئة بالفتن الجوامع ... فكلنا أصبحنا عبيدًا لذلك الهوي الذي لعب بقلوبنا وعقولنا حتي كاد يقنعنا بأن مصر هي التي أنزلت فيها الإعلانات والمسلسلات وإعلانات كليب الإثارة والشهوات والاستفزازات .. كلنا تقريبا أصبحنا ضحايا لهذا العبث، الذي لا طائل من ورائه إلا الانحلال والاضمحلال والمثول والطاعة لكل إغراء يمليه علينا مسلسلاً كان أو إعلانًا. في دراسته عن القيم التي تعكسها الإعلانات التليفزيونية، يؤكد الدكتور محمود عبدالعاطي- المدرس بقسم الصحافة جامعة الأزهر- أن إعلانات التليفزيون في العالم العربي، أصبحت أحد مظاهر التلوث السمعي والبصري والثقافي والقيمي، حيث يغلب علي الرواج الإعلاني العشوائية وانتهاك صورة المرأة، وإشاعة روح الإثارة والجنس والمقامرة وحب التواكل. حين حلت العين في ثقافة الصورة محل الفم والأذن كأداة وحيدة فاعلة، فإنها حلت هنا كموضة مركزية تغيرت معها معايير ومقاييس الاهتمام والثقافة كلها، إرسالاً أو استقبالاً، فهمًا وتأويلاً. نظر إلي معظم الآباء والأمهات الذين يشكون مر الشكوي من الغلاء ووحشية الحياة ونار الأسعار كيف استعبدتهم هذه الإعلانات وأذلتهم، فعلي الرغم من أن هؤلاء الآباء والأمهات يعلمون أن حلوي الأطفال كالشيكولاتة والبسكويت ورقائق البطاطس الجاهزة وغيرها من المقرمشات التي يلتهمها الأطفال بشراهة ضارة بصحتهم وتهدد حياتهم فإنهم فشلوا في المقاومة ولم يملكوا إلا الرضوخ والعبادة للإعلان وشهوته وإثارته وفتنته. في أيام الطفولة والصبا مازلت أذكر كيف كنت أجهل معرفة الشيكولاتة ولم أكن أبدًا علي علاقة منتظمة معها، أو مع أي من أفراد عائلتها الكاكاوية البرجوازية العريقة، اللهم إلا معرفة مع بعض الأفراد الفقراء من عائلة الحلوي (كالعسلية والأرواح والمصاصة) وكلها حلويات معروف أنها تعيش وتنتشر في القري والنجوع والحواري والأزقة، حيث البسطاء والفقراء والمرارة واليأس والبؤس والشقاء والعذاب والإهمال والحرمان، لكن هذه الأيام الوضع اختلف، إلا أنه الآن ومع تأثير هذه الإعلانات فثلاثون ثانية فقط علي شاشة التليفزيون كانت كافية لتدخل بيتنا الشيكولاتة وكل أنواعها فاخرة لذيذة كانت سامة وقاتلة، وثلاثون ثانية أخري- ومثلها أخريات- كانت تكفي لتتولد في بيوتنا أحلام استهلاكية لسلع جديدة، تغيِّر من طبيعة أذواقنا وسلوكنا، وتدفعنا إلي قبول ما كنا نستنكره من ميوعة في القول، وفحش في الابتذال، ودغدغة للأحلام..، نقبل كل ذلك مصلوبين أمام التليفزيون..، ونبرِّر لأنفسنا أنها.. مجرد إعلانات إن صغيري- ومن تأثير هذه الإعلانات وخطورتها- بات يطالب في ثورة مُلِحَّة بتلك الشيكولاتة وأنواعها وأصنافها المختلفة، وبينما يرفع صوته بالطلب، كانت أجزاء جسمه تقلد حركات الفتيات - المائعات - في إعلان الشيكولاتة..!! ومدفوعًا بالإلحاح كنت أُلَبِّي الطلب، وأنا أتذكر - فور إمساكي بقطعة الشيكولاتة - شفاه الفتاة الشقراء وهي تقضم بتلذذ قطعة الشيكولاتة في الإعلان! .. فاللهم في هذا الشهر الكريم اكفنا شر عبادة الإعلان وارزقنا عبادتك وطاعتك يا رحيم يا رحمن .. اللهم آمين .. آمين.