صفوت و أنا زملاء تختة واحدة، كان ولداً جميلاً، يرتدي المريلة البيج نظيفة مكوية، أما حقيبته فهي مرتبة لا ينقصها شيء. كان معروفاً في الفصل بأنه الولد الطويل الأبيض ذو العينين عميقتي السواد، والذي يتحدث بلكنة قاهرية، أي شيء ناقص خلال اليوم الدراسي يطلبه المدرسون أوالتلاميذ يجدونه عنده، يقدمه بأدب وبساطة كأنه لم يفعل أي شيء. كنت قليلاً ما أحضر مصروفاً أو سندوتشات، ذهابي إلي المدرسة في ذاته كان ترفاً عرض أمي للوم بسببه من أعمامي واخواي الكبيرين «سعيد» و«راضي» اللذين اضطرا لترك المدرسة بعد وفاة أبي، والالتحاق بورش التذهيب، فوجئت بصفوت يقسم كل يوم السندوتش نصفين، ويضع النصف في درجي في صمت دون أن يشعر به أحد. إلي أن كان يوم فوجئنا بالمعلمة تنادي اسمينا، وتطلب منا التوجه إلي حجرة الناظر بعد الحصة الأخيرة، اندهشنا وأصابنا الخوف، لا أحد يذهب إلي حجرة الناظر إلا ليعاقب، ونحن لم نفعل أي شيء يستحق. كان الأولاد ينظرون إلينا بتساؤل. وكنا نتلفت حولنا وقد انتابتنا الهواجس، كان وجه المعلمة لا يفصح عن شيء، مع دق جرس انتهاء الحصة الأخيرة انطلق الأولاد في حماس إلي المرواح، أما أنا وصفوت فكنا مازلنا في التختة نجمع أغراضنا ببطء، حثتنا المعلمة علي أن نهم إلي حجرة الناظر، سرنا ببطء متجاورين، ووقفنا إلي جوار الباب ننتظر، حين أشارت لنا المعلمة دخلنا حجرة الناظر الضخم احمر الوجه. ورأينا شورتين لونهما بيج مفروشين في وضع العرض وقميصين أبيضين معروضين بذات الطريقة، اندهشنا والناظر يشير للمعلمة أن تعبئ لكل منا قميصاً وشورتاً في الحقيبة المدرسية، كنا لا نستطيع السؤال من شدة الاندهاش، قال الناظر دي إعانة من التربية والتعليم لمن توفي آباؤهم، نزلنا الدرج العالي. كانت المعلمة تتبعنا من نافذة حجرة الناظر بنظرة أسي ممزوجة بابتسامة .كنا صفوت وأنا نبكي ونحن نري المدرسة خالية تماما كما لم نرها من قبل، يومها لم أذهب إلي بيتنا، ورحت مع صفوت لأول مرة إلي بيتهم، في شارع المعهد الديني. كنا نبكي طوال الطريق لسبب غير مفهوم. في هذا اليوم رأيت أم صفوت، صعدت معه السلم العالي، كانت درجات الموزايكو نظيفة ملتمعة تضيئها الأنوار المنبعثة من الزجاج الملون لنوافذ المناور، توقف صفوت أمام باب شقتهم في الطابق الثالث، ضغط جرس الباب، سمعت صوت أمه ينبعث رقيقاً، انت جيت يا صفوت؟ انفتح الباب، لم أصدق أنها أم صفوت، كانت لا تشبه الأمهات اللائي أعرف في حارة معري وأرض زعتر، كانت ترتدي بيجامة بيتية تتداخل فيها ورود صغيرة تشبه الفل والقرنفل، وكان شعرها الأسود غزيراً مفروقاً من الوسط، يسيل علي وجهها إذا ما مالت قليلاً، وعيناها سوداوين زادهما الكحل اتساعاً، ظننت أنها أخت صفوت الكبري لولا أنها احتضنته حين رأت الدموع المتحجرة تحت عينه، ولم تحتضنني أم صفوت بالرغم من دموعي، أشار إليّ صفوت فنادتني أمه: تعالي، تذكرت أمي حين تقلع القرطه ينساب شعرها الأسود الغزير علي الجانبين لكنها لا ترتدي بيجامه، ليس عندها بيجامات، فقط جلابيب، وهي لاتضع الكحل في عينيها، و لا تحتفظ بالشيكولاتة في البيت، قال لي صفوت إن أمه من العباسية في القاهرة، وإن والده محام وإنه مات في حادث سيارة، وإن أمه تتحدث كثيراً باللغة الإنجليزية. في طريق العودة رأيت الأولاد يتقافزون علي «سرس» مضرب الأرز، وقد تركوا حقائبهم علي الأرض، ركنت حقيبتي فوق الرصيف، فتحت الشنطة، أخرجت الشورت والقميص، بدا أنه مقاسي، كان للشورت جيب خلفي بغطاء يقفل بزرار خلافاً للشورت الذي فصله لي «فاروق صابون» وكان بلا جيوب. أعدت الشورت والقميص إلي الشنطة، سرت في شارعنا الواسع العريض الذي غرست به أعمدة إنارة تصل إلي باب القسم.