الأستاذ مهدي عاكف المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين حكي عن لقاء بقيادات من جهاز أمن الدولة، قبل انتخابات 2005. الحكاية معروفة في الأوساط السياسية، وتعرف باسم الصفقة. تنكر الجماعة بجميع مستوياتها القيادية ل«الصفقة »، لكن حكاية المرشد تنقل تحليل علاقة «الجماعة» ب«الجهاز» خطوة جديدة. يمكن فهم رغبة الجماعة في مد خطوط مع الجهاز الذي يمثل اليد العليا الخفية المسيطرة علي الحياة السياسية. الجهاز يفكر في السياسة بشكل أمني، والجماعة تريد بالخيوط، توسيع هامشها الذي حصلت عليه أولاً عندما أراد السادات ضرب اليسار في السبعينيات، وثانياً عندما أراد مبارك حسم معركته مع الجماعات الإرهابية، ومنذ 1995 انتقلت الجماعة إلي موقع جديد، بين الشرعية والحظر. هل تم الانتقال برعاية الجهاز ؟ أم أنه قرار سياسي أعلي ؟ الجماعة انتقلت إلي هامش أوسع، انتهت مرحلة «العمل في المساجد » إلي النقابات والأحزاب ومجلس الشعب...وهي مرحلة تمت في ظل الخيوط بين الجماعة والجهاز. كيف يتفاوض جهاز أمن الدولة مع زعيم جماعة محظورة؟ هذه مفارقة سياسية كبري يستفيد منها الطرفان، الجماعة تستفيد من سحر وجاذبية الجماعة الممنوعة، المضطهدة...وفي نفس الوقت تتمتع بالأرض الجديدة. والجهاز يختار معارضة يمكنه السيطرة عليها، لأنها ليست لها حقوق الحزب الشرعي، وقرار إغلاقها ومطاردة عضويتها موجود في الأدراج ويخرج وقتما أراد الجهاز. يمكن السيطرة علي الجماعة، إذن. هذه السيطرة تمنحها الجاذبية، التي منحها لها استبداد الجنرالات..صناع الدولة الحديثة في مصر. الجنرالات فشلوا في صناعة دولة ناجحة، وقتلوا المنافسين أو مشاريع المنافسين، حاربوهم بالسلاح التقليدي وهو نشر اشاعات عن الكفر والخروج عن النص الاجتماعي، وقاموا بتأميم السياسة لهم وحدهم، ولم يبق أمام الناس سوي الشيخ. الشيخ استفاد من فشل الجنرال الذي وضع المجتمع كله في زنزانة كبيرة.. أدارها بمنطق الثكنات العسكرية. كان الجنرال يخطب في شعبه من الشرفات، ينظر إليه من أعلي.. بينما كان الشيخ بجوارهم في الجامع لحظة الصلاة والمساواة بين الجميع. هزيمة الجنرال انتصار للشيخ، وهما متشابهان في طلب السمع والطاعة. الجنرال يطلبها في الشارع. والشيخ في المسجد. والهزيمة أخرجت الشيخ ليكون امتداداً للجامع. استمرار حسن البنا هو ابن هزيمة الدولة الحديثة التي نافق فيها كل الجنرالات الحس الديني للشعب. يقولون إن شعب مصر متدين وكأنه الوحيد بين شعوب الأرض، أو كأن ذلك يعني معاملة خاصة تختلط فيها محبة الله ببناء الدولة، وساعتها سيظهر شعار مثل «إن الإسلام هو الحل»، وهو شعار يشبه الدعايات التليفزيونية التي تلغي كل مميزات المنافس، بل تلغي المنافسة من أساسها. لعب حسن البنا السياسة بمنطق تحريك السلطة بالريموت كنترول. نجحت إلي حد ما مع الملك فاروق الذي ورث عن أبيه الغرام بمنصب الخليفة. أهدافه كلها تحريك رأس السلطة لتنفيذ تعليمات التنظيم وتصوراته عن الحياة في مصر المحروسة دون أن يشعر، وعلي أنها تعليمات الله، هم وكلاء الله، يتصورون أن العداء مع الإنجليز ليس صراعاً بين مصالح وحرب بين قوتين، بل هي محاولة لهدم عقيدة الإسلام.. ورغبة من الكفار في إبعاد المسلمين عن دينهم. كان حسن البنا مسنوداً من طلائع برجوازية ريفية (شرائح نالت بعض التعليم أعلي من المتوسط..وتوقفت ) تبحث عن دور وتريد الذوبان في الجماعة. هؤلاء يشبهون أتباع هتلر الذين كانت مشاعرهم تهتاج لحظة خطاب، تبكي النساء في البيوت، ويشعر الرجل بأنه توحد مع الزعيم الملهم الذي وجه اللعنات إلي عدو اختاره بعناية..ويبحث عن طريقة لتفريغ اللعنات. أتباع حسن البنا في مهمة دينية وإن اتخذت شكلا سياسياً. ومع حصار السياسة الحقيقية في مقرات الأحزاب...يبدو الجامع هو مكان الاحتجاج الوحيد، ويبدو اتهام الحكومة بالفساد الأخلاقي هو قمة الفعل السياسي. هذا التصور علي ممارسة السياسة أخلاقياً هو أحد أسرار بقاء حسن البنا...يحكم إلي الآن. يحكم الدنيا من الآخرة.